اتفاقية أوشى لوزان
هكذا قدّم الأتراك ليبيا للاحتلال الإيطالي بالقرن الماضي
مقارنة بجيرانها الأوروبيين، دخلت إيطاليا، التي توحّدت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، السباق الاستعماري بشكل متأخر.
وفي خضم مؤتمر برلين لعام 1878 الذي لعب خلاله المستشار الألماني بسمارك دورا هاما، صعّدت إيطاليا من لهجتها وطالبت بالحصول على ليبيا التي كانت حينها قابعة تحت سلطة الباب العالي.
فضلا عن ذلك، شهدت نفس الفترة اتفاق كل من فرنسا وبريطانيا حول تقاسم عدد من ممتلكات الدولة العثمانية، الملقبة برجل أوروبا المريض، بالمتوسط، فحصلت فرنسا على تونس بينما استحوذت بريطانيا على جزيرة قبرص.
وخلال السنوات التالية، لم تتردد إيطاليا في التحرك على الساحة الدولية لضمان حصولها على طرابلس وبرقة فعقدت جملة من الاتفاقيات السرية مع عدد من القوى العالمية، فاعترفت بأحقية فرنسا بالهيمنة على المغرب مقابل رضوخ الفرنسيين لمطالب الإيطاليين بليبيا، كما اتفقت مع البريطانيين على الاعتراف بدورهم بمصر مقابل مساندة بريطانيا لمطامعهم.
وأمام غياب تام للعثمانيين على الساحة الدولية، كسب الإيطاليون ودّ الإمبراطورية الروسية حول مسألة ليبيا مقابل تقديمهم لوعود بتأييد هيمنة القيصر الروسي نيقولا الثاني على البوسفور.
من جهة ثانية، لم تتردد هذه القوى الأوروبية في الرضوخ لمطالب إيطاليا أملا في ثنيها عن التحالف مع الألمان وإخراجها من الحلف الثلاثي الذي جمعها بكل من ألمانيا والنمسا المجر.
وعلى الرغم من ترددها لسنوات، فضّلت الحكومة الإيطالية الرضوخ للمطالب الشعبية التي طالبتها بالحصول على مستعمرات فأرسلت إنذارا للعثمانيين ما بين يومي 26 و27 أيلول/سبتمبر 1911 طالبت من خلاله بخروج القوات العثمانية من ليبيا، وتسليمها زمام الأمور بها أو تحمّل عواقب الحرب.
وأمام هذا الوضع، لجأ الأتراك للنمساويين فراسلوا عن طريقهم الإيطاليين واقترحوا عليهم نقل السيادة بليبيا لإيطاليا دون اللجوء لخيار الحرب مع الإبقاء على وجود صوري للسلطان العثماني بها.
إلى ذلك، رفض رئيس الوزراء الإيطالي حينها جيوفاني جوليتي (Giovanni Giolitti) هذا المقترح معلنا الحرب على العثمانيين يوم 29 أيلول/سبتمبر 1911.
ومع بداية الحرب، قصفت البحرية الإيطالية مدينة طرابلس مطلع تشرين الأول/أكتوبر وسيطرت عليها بعد إنزالها لحوالي 1500 جندي، كما تمكنت خلال الأيام التالية من الهيمنة على كل من درنة والخمس وطبرق بعد إرسالها لما يزيد عن 20 ألف جندي إضافي، وبعدها تمت السيطرة على بنغازي.
من جهة ثانية، عجز الإيطاليون عن التقدم أكثر فواجهوا مقاومة شرسة من المقاومين الليبيين الذين شنوا هجمات كبّدت الإيطاليين خسائر جسيمة.
وأمام هذا الوضع، لجأت إيطاليا لإرسال 100 ألف جندي إضافي لمواجهة نحو 20 ألف مقاوم ليبي لتتحول بذلك هذه الحرب لحرب مواقع وخنادق بين الطرفين تكبّد خلالها الإيطاليون مزيدا من الخسائر.
في الأثناء، حاولت العديد من القوى العالمية التدخل لإنهاء النزاع العثماني الإيطالي ولعل أهمها المحاولة الروسية خلال شهر شباط/فبراير 1912 والتي كللت بالفشل.
لكن خلال شهر تموز/يوليو من نفس السنة جلس الطرفان لطاولة المفاوضات بقرية كو (Caux) بسويسرا قبل أن يواصلا التفاوض بأوشي (Ouchy) بضواحي لوزان بسويسرا.
وبادئ الأمر، تمسّك الجانبان بموقفهما قبل أن يلجأ الأتراك للرضوخ للإيطاليين خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر.
في يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر 1912، أعلنت مونتينيغرو الحرب على الأتراك، كما استعدت كل من صربيا واليونان وبلغاريا لعمل مماثل، ممهدين بذلك لبداية حرب البلقان الأولى.
وخوفا من هذه الحرب التي لاحت في الأفق، حصل المفاوضون الأتراك على أوامر بالتضحية بليبيا والتوصل لاتفاق ينهي الحرب مع إيطاليا.
ويوم 15 تشرين الأول/أكتوبر 1912 قبل الوفد التركي المتكون أساسا من محمد نبي باي ورومبي أوغلو فخر الدين بما اقترحه الإيطاليون ووقعوا على اتفاقية أوشي، المعروفة أيضا باتفاقية لوزان لعام 1912، بعدها بثلاثة أيام.
وإلى جانب قبولهم بوقف العمليات القتالية وتبادل الأسرى، تخلى الأتراك عن الليبيين وتركوهم بمفردهم في مواجهة الإيطاليين بعد أن وافقوا على سحب قواتهم وموظفيهم من ليبيا ومنح طرابلس وبرقة الحكم الذاتي مقابل انسحاب ايطاليا من عدد من الجزر الإيجية قرب اليونان.
كما قبل الإيطاليون بتعيين قاض ونائب عن السلطان ببرقة وطرابلس يتكفل الباب العالي بكامل مصاريفهم وتعهدوا بدفع مبالغ مالية لخزينة الدولة العثمانية.
وبسبب تخلي الأتراك عنها، غاصت ليبيا في عقود من الاستعمار الإيطالي شهدت مذابح عديدة وانتشار للمجاعة وعمليات تهجير أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى قدّرت بمئات الآلاف.