استعدادات إيطاليا الدبلوماسية الاقتصادية والعسكرية لاحتلال الممتلكات التركية في الشمال الأفريقي (ليبيا)

استعدادات إيطاليا الدبلوماسية الاقتصادية والعسكرية لاحتلال الممتلكات التركية في الشمال الأفريقي (ليبيا)

استعدادات إيطاليا الدبلوماسية الاقتصادية والعسكرية لاحتلال الممتلكات التركية في الشمال الأفريقي (ليبيا)
———- —————- —————
كان المستعمرون الإيطاليون ينظرون إلى حوض البحر الأبيض المتوسط. ولی بلدان الشمال الأفريقي الممتدة على ساحله على أنها مناطق طبيعية لنفوذهم. ولما كانت إيطاليا تعتبر نفسها مهضومة الحقوق" في اقتسام أفريقيا، وكانت تتطلع إلى تحقيق مطامح بعيدة المدی، فإنها كانت تحاول بكل الوسائل أن تضع أيديها على منطقتي طرابلس وبرقة اللتين كانتا واقعتين بين الممتلكات الاستعمارية لإنجلترا وفرنسا. ولذلك كانا يعتبران راس جسر مناسبا من أجل تحقيق مطامح عدوانية تالية تقوم بها
إيطاليا في أفريقيا.
وكانت الحكومة الإيطالية تعد العدة لغزو منطقتي طرابلس وبرقة منذ أمد بعيد وبأقصى حدود الدقة فقد أخذ الرأسمال الإيطالي يتغلغل بصورة تدريجية في طرابلس وبرقة تحت شعار
ما يسمى بالنفاذ الاقتصادي السلمي. ولم يكن ينظر إلى هاتين المنقطتين على أنهما مكان مناسب لتوظيف الرساميل فحسب بل وكسوق لتصريف السلع النسيجية والغذائية والكيماوية وغيرها من فروع الصناعة الإيطالية. وهكذا، فإن إيطاليا، شأن بقية الدول الأوروبية الكبرى حظيت في هذه المنطقة بحق التمتع بالتسهيلات الكبرى وذلك منذ فبراير سنة 1873 م وفي سنة 80 18 م أنشيء أول مكتب تجاري إيطالي في بنغازي، وبعد سنة من ذلك أرسلت بعثة تجارية خاصة إلى برقة وفي بداية القرن العشرين أخذ التوسع الاقتصادي الإيطالي يزداد وطأة.
كانت الأوساط الإيطالية الحاكمة وخاصة أمثال جوليتي تلك الشخصية السياسية التي ترأست الحكومة الإيطالية أكثر من مرة تعمد من أجل ضمان النجاح في تحقيق خططها إلى ممارسة النشاط التخريبي والتجسسي في مناطق الشمال الأفريقي من الإمبراطورية العثمانية. ومن أجل هذه الغاية نظم مكتب خاص بالاستخبارات الحق به جواسيس ممن لهم دراية بالعربية وممن يتمتعون بخبرة عملية في بلدان الشرق وفي سبتمبر سنة 1904 م بدأ العملاء الإيطاليون يوجهون إلى ليبيا تحت أسماء مستعارة. وقد وفد الكثير منهم إلى أفريقيا الشمالية بحجة البحث عن عمل، وكان بينهم أشخاص ذوو اختصاصات مختلفة، فكان منهم التجار وعمال البناء وصناع الأسلحة ويكتب المؤرخ الليبي خليفه المنتصر أن "منهم من بلغت به الوقاحة والصفاقة أن زعم أنه قرأ الكثير عن الدين الإسلامي فاستهواه وفضل أن يدخل فيه ليكون من زمرة المهتدين. وقد زوّد كل منهم بكميّة ضخمة من النقود، وكانت مهمته تتعلق بجميع المعلومات المتعلقةبالاتجاهات النفسية لسكان البلاد، وبالتقرب من رؤساء القبائل وأعيان منطقةطرابلس، وتبيان موقفهم من إيطاليا وإمكانية توقع السند منهم في حالة التدخل الإيطالي. وكان رجال الاستخبارات الإيطاليون يدرسون عادات العرب وتقاليدهم بوجه خاص، ويبينون علاقاتهم بالسلطات التركية ويعلمون المركز بكل بادرة من بوادر التبرم من استبداد هذه السلطات وبالتناقضات بين بعض القبائل والقادة وبمستوى ثقافة الكثير منهم، ودرجة تأثيرهم على مواطنيهم. وأنشئت في كافة أرجاء طرابلس، خلايا استخبارات كان أعضاؤها المقيمون على اتصال مباشر بمكتب الاستخبارات يتلقون منه الأوامر، وينقلون إليه المعلومات. وبعد إخضاع هذه المعلومات لعمليتي التدقيق والتمحيص كانت ترفع إلى رئيس الوزراء جوليبتي.غير أن رئيس الوزراء لم يكن يكتفي بالمعلومات الواردة من رجال الاستخبارات والعملاء. فقد وجهت إلى طرابلس شخصيات واسعة الخبرة من وزارة الخارجية برئاسة غالو الذي نزل طرابلس في صورة قنصل، وإلى جانب تسريب الإخبار السرية أنيطت بهذه المجموعة مهمة الاجتماع بأنظار إيطاليا ومن ثم وضع تقريرا حول الوضع في البلاد
وبعد أن وصلت الأخبار من غالو حول استعداد بعض القادة المحليين للتعاون مع الأتراك أوعز جولييتي إلى أجهزة الاستخبارات بأن تبدأ حملة تناول فضح النظام التركي المتخلف والرجعي والدعاية للديمقراطية السائدة في إيطاليا على حد زعمه وأفرد في الدعاية مكان خاص للمزاعم القائلة بأن الازدهار سيصيب اقتصاد طرابلس في حال انتقالها على الإدارة الإيطالية.
وبعد دراسة التقارير التي قدمتها مجموعة غالو إلى روما تقرر أن يفتتح في طرابلس فرع ل "بانكو دي روما" الذي كان قد تأسس في نهاية القرن التاسع عشر وبمساهمة فعّالة من الفاتيكان .
كان المتوقع أن يحول "بانكو دي روما" في طرابلس إلى سلاح أساسي للتغلغل الاقتصادي الإيطالي في ليبيا، وإلى مرکز نصف شرعي لنشاط الاستخبارات الذي كان عليه أن يحل محل نظام التجسس السابق. وكان رجال الفاتيكان الذين يمثلون مساهمي بانكو دي روما) يضعون اهتماماتهم المغرضة المرتبطة بتعميق تأثير الكاثوليكية في أفريقيا الشمالية عامة، وفي طرابلس وبرقة بشكل خاص إلا أن الإيطاليين خلال افتتاحهم الرسمي لفرع بانكو دي روما" أعلنوه مؤسسة تهدف إلى تطوير الاقتصاد الليبي..
وفي سنة 1905 م بدیء بإنشاء فروع ل "بانكو دي روما" في طرابلس أول الأمر ثم في بنغازي ودرنه. وكانت في بداية عهدها خاضعة للقنصل غالو، وتقوم بتنفيذ مجموعة من العمليات التجسسية ومنها تمويل العمالة الإيطالية بالنقود وتزويدها بكل
الاحتياجات. ) وحدث أن قام سونینو، رئيس الوزراء الجديد بوقف كل نشاط الاستخبارات في طرابلس، واستدعى القنصل غالو متهما إياه بتبديد أموال الدولة. وفي سنة 1906 م أصدر مرسوما حصر فيه نشاط "بانكو دي روما" بالعملیات المصرفية الاعتيادية. )وافتتحت الوكالات التجارية للمصرف في 12 مدينة من ليبيا، وصار المصرف يشتري الأراضى وغيرها من العقارات، كما أقيمت بأمواله مطحنة كبرى ومصنع لعصر الزيتون ومصنع للورق ومصنع ميكانيكي ومكسر للحجارة، وصار يملك محطة الكهرباء الوحيدة في طرابلس ومصنع الصابون ومنشآت تصنيع ريش النعام وما شابه ذلى وبواسطة المساعدات الحكومية افتتح المصرف خطين للسفن يربطان بين موانيء طرابلس وبنغازي ودرنه ومالطا وجنوا وباليرمو وحتی استانبول.
حقق التوسع الإيطالي تطورا ملموسا بسبب تغاضي الإدارة التركية المأجورة. ومن خلال محاولاتهم لترسيخ أقدامهم في أسواق ليبيا، أخذ الإيطاليون يضاعفون من توريد بضائعهم، وبصورة خاصة المواد المصنعة: الأقمشة، الأخشاب، المرمر، الخمور، السكر، . الأرز، الورق والأجبان. وفي سنة 1908 م كانوا يشغلون المرتبة الثانية في التجارة مع طرابلس وبرقة بعد انجلترا. ). وبوصول وزارة "جولييتي" الجديدة إلى السلطة في نفس سنة 1906 م عاد
المتطرفون مجددا إلى مزاولة استعداداتهم المكثفة بهدف وضع أيديهم على ليبيا. ومما يشار إليه أن غالو القنصل السابق في طرابلس قد عين في وزارة جولييتي وزيرا للعدل، وهو الذي قدم الكثير لتسيير أعمال الاستخبارات هناك، وأظهر تفانيا في سبيل السياسة الإمبريالية. واسند جولييتي إليه مهمة تنشيط أعمال المخابرات في طرابلس وتوسيعها لتشمل منطقة برقة، وتدعيم التعاون المتبادل بين حلقاتها.
ولكي لا يقوم مناوئو السياسة الخارجية العدوانية بمعارضة تعزيز النشاط المخابرات، أحدث في طرابلس جهاز استخبارات خاص، كان رئيسه با ايسيكي ومنح صلاحيات واسعة، وصار هذا الجهاز منظمة مستقلة لا تسأل إلا أمام رئيس الوزارة، وهو ما مكن حتى ذلك الوقت وبنتيجة اللعبة الدبلوماسية المعقدة، كانت إيطاليا قد ضمنت لنفسها جانب واحد ضد تركيا( ۱ ). موافقة الدول الأوروبية الكبرى على ضم ليبيا، وبغير ذلك ما كان ممكنا لها الهجوم من هذا وقد أدى رد فولبي إلى إثارة القلق في نفس جوليتي وأنصاره إلى أبعد الحدود، وأجبرهم على إعادة النظر في موعد الهجوم، فمن الخطا الذي لا يغتفر الاقتصار علی أخذ قوات الجيش النظامي لتركيا بعين الاعتبار، واقتراح ضرورة إعارة أهمية جدية إلى سكان البلاد العرب، وخاصة إلى بدو الدواخل الذين لم يسبق لهم يوما أن تخلوا عن سلاحهم.ولم يكتف ضابط المخابرات فارا الذي أرسل بصورة خاصة إلى ليبيا لدراسة الوضع بصورة تفصيلية وعن كثب في تقريره المرسل إلى جوليتي بتأكيد تصورات فولبي فحسب، بل وأضاف بأن الليبيين لا يضنون بحياتهم في سبيل حماية الوطن من أي غزو أجنبي. وكتب بأنه لا توجد في طرابلس تشكيلات عسكرية من السكان المحليين بالمعنی المعروف للكلمة إلا أن بالإمكان أن تظهر إبّان المعركة ضد المحتلين، كما أنه قال بإمكانية قيام مقاومة مستميتة من جانب القبائل العربية المتعشقة للحرية. أما فيما يخص برقة فقد أشار فارا إلى أن سكانها يلتفون حول الجمعية السنوسية وأن هناك وحدات عسكرية حقيقية توجه من الكفرة والجغبوب . أما النقطة الوحيدة التي تثير الأمل بصورة واقعية فاعتبرها فارا التناقضات بين العرب والبربر، تلك التناقضات التي تحول دون اتحادهم في النضال ضد الإيطاليين.
وضع جولييتي نصب عينيه المعلومات الجديدة للمخابرات، ولكي يتجنب أي خطأ قد يؤدي إلى فشل العملية التي فكر بها سنة 1909 م بكاملها، فإنه أوعز إلى الجاسوسين فارا، وباتيسيكي باتخاذ جميع التدابير واستخدام كافة الوسائل من أجل تأجيج نار الشقاق بين الأتراك والسنوسيين، وبين العرب والبربر، وخصصت لذلك مبالغ إضافية من المال. وفي الوقت نفسه فوض جوليتي فارا بأن يتصل بزعماء الجمعية السنوسية ويشهد لهم باسمه يبذل العون المادي والمعنوي إذا ما تزعموا خروج العرب على الأتراك. أماما يتعلق بفولبي وغراسّوا ونوغارا فقد صدرت إليهم التعليمات بإيهام السلطة التركية العليا بأن الجمعية السنوسية تقوم استعدادتها الجادة للتحرك من أجل طرد الأتراك وتحقيق الاستقلال وحكم البلاد وأن تدعيم مراكز الجمعية ما هو إلا نتيجة لتلاعب الإدارة التركية والقادة السنوسيين وكان على الاستخبارات القائمة في تركيا أن تقنع الأتراك بأنهم إذا لم يسارعوا إلى القضاء على الجمعية السنوسية فإن هذه ستنتهي على إخراجهم من ليبيا.
بيد أن نشاط رجال المخابرات الإيطالية في هذا الاتجاه لم يحقق نجاحا.
أدى ذلك كله إلى اقتناع جوليتي بأن الاهتمام الأساسي يجب أن ينصب على الجيش والأسطول الإيطاليين، وأنه لا يمكن بغيرهما تحطيم مقاومة الجيش التركي المرابط في ليبيا ومقاومة السكان المحليين الذي سيهبون بصورة محترمة إلى الدفاع عن وطنهم. وكان لابد من إرجاء موعد الهجوم عدة أشهر على الأقل من أجل إعادة التمحيصات الدقيقة في جميع الحسابات والخطط.
وفي سنة 1909 م استقالت حكومة جولبیتی وتسلمت الحكم وزارة سونينو، فكان من أول خطواتها تصفية مكتب الاستخبارات التابع لمكتب رئيس الوزراء، والحد من نشاط شبكة الاستخبارات خارج حدود البلاد. إلا أن هذه الحكومة، وحكومة لوتساتي التي خلفتها لم تمكثا في الحكم طويلا. وفي سنة 1911م، عاد جوليتي للمرة الرابعة ليمسك بأعنة الحكم في إيطاليا.
وبعودة جولييتي، بدأت الاستعدادات المكثفة للهجوم على ليبيا، وبما أنه كان يضمر خوفا من أن الجمعية السنوسية يمكن أن تقيم العوائق الجدية في سبيل التوسع الإيطالي، فإنه قام بمحاولات الاجتماع بزعمائها.وكان أمام رجال العمالة العربية في ليبيا مهمة إقناع زعماء الجمعية السنوسية بالوقوف إلى جانب الإيطاليين في الحرب ضد الأتراك لقاء تعهد إيطاليا في حال نجاحها بإغداق الأوسمة والألقاب عليهم ووضع مبالغ كبيرة من المال تحت تصرفهم.
فمن ليبيا، أخذت تتواتر المعلومات مؤكدة استعداد الأهالي للمقاومة، فبدأت الاستخبارات الإيطالية تسلك حيالها مسلكين: فمن جهة، أخذت تحاول التوصل إلى إقامة علاقات صداقة مع زعماء الجمعية السنوسية عن طريق الرشاوي وبذل الوعود بالألقاب والمناصب نظير الكف عن النشاط الموجه إلى دعوة الشعب إلى المقاومة تحت شعار الجهاد والحرب المقدسة. ومن جهة أخرى، راحت تتخذ إجراءاتها لنزع الثقة بالجمعية السنوسية. فكانت تحاول أن تشكك الشعب بصحة المعتقدات الدينية للجمعية ، وفي نهاية المطاف استقرت نشاط الاستخبارات الإيطالية في ليبيا على الاتجاه الثاني،
وحاولت الاستخبارات الإيطالية من خلال استغلال النزاعات بين قادة السنوسية ورؤساء القبائل، أن تزرع بذور الشقاق والعداوة بينهم، كما كانت تحاول بكل وسيلة أن تذكي أوار النزاع بين القبائل، فتمت محاولات إقناع شيوخ القبائل وخاصة في برقة بالابتعاد عن السنوسيين، والإيحاء لهم بأنهم لم يتمكنوا من مقاومة الاحتلال الإيطالي وأن مثل هذه المقاومة لا تكتسب أي معنى ما دامت إيطاليا تحمل الهدوء والازدهار إلى ليبيا ورفع مستوى الحياة إلى سكانها. . وكان ذلك كله شاهدا على أن الأوساط الإيطالية الحاكمة كانت تتوجس خيفة من ذلك التأثير الكبير الذي كان للسنوسيين بين أهالي برقة، بل وفي غيرها من المناطق الأفريقية. كانت المعلومات الواردة من طرابلس وبنغازي وماساو )الحبشة(، ومن بيروت واستانبول أيضا تؤكد أن جميع المحاولات الرامية إلى إبطال تأثير السنوسيين تنتهي إلى الفشل.. فقد نص تقرير بارودي عضو المجلس الإداري ل "بانكو دي رما" على أنه لا شك في أن المقاومة في ليبيا تعتبر من أكبر العراقيل التي ستعترض سبيل إعادة أمجاد روما في هذه البلاد المتوحشة ولا شك في أنها ه ستكون عائقا كبيرا في وج احتلالنا وبسط نفوذها. ولكن هذا لا ينفي احتمال انشقاق زعماء بعض القبائل علی "السنوسية وبذلك يمكن تفادي خطر استشراء دعوتها في بعض البلدان من مقاطعة طرابلس، غير أن أمثال هذه الآمال لم تكن ذات أساس.
....نهاية الجزء الاول ....