الأصول والجذور اليمنية لقبائـل البَربَر في بلاد المغرب العربي

الأصول والجذور اليمنية لقبائـل البَربَر في بلاد المغرب العربي

‎الأصول والجذور اليمنية لقبائـل البَربَر في بلاد المغرب العربي

———

‎سنوات دراستي في جمهورية فرنسا 

‎(1988-1994م)، حينها تعرفت على عدد من الإخوة الزملاء القادمين من بلدان المغرب العربي ( المملكة المغربية وتونس وليبيا والجزائر وتشاد وموريتانيا) إلى فرنسا للدراسة، وكان من بينهم زملاء وزميلات من قبائل البربر من المملكة المغربية والجمهورية التونسية ومن أبناء القبائل من جمهورية الجزائر ذكر لي البعض منهم بأن أصولهم من اليمن من قبائل يمنية هاجرت قبل مئات السنين إلى المغرب واستقرت فيها ويذكرون لي أسماء بعض المصادر والمراجع وكتب النسابة التي توضح وتؤكد صحة ذلك، والحقيقة أن أول ما لاحظته هو أن أسماء وألقاب أسر هؤلاء الزملاء والزميلات من أبناء قبائل البربر الذين تعرفت عليهم في فرنسا هي أسماء قبائل وأسر يمنية معروفة قديماً وغالبيتها لا تزال موجودة في اليمـن وتعرف بهذه الأسماء حتى اليوم. 

‎لقد شعرت بالسعادة بتعرفي عليهم وشعرت بالتشويق والحماس والاندفاع نحو البحث عن إجابات لأسئلة واستفسارات تبادرت إلى ذهني ودارت في رأسي عن موضوعين: 

‎الموضوع الأول الهجرات اليمنية إلى بلاد المغرب العربي عبر العصور ؛ وعن أسماء وتاريخ القبائل والأسر اليمنية التي استقرت في تلك البلاد؟ و تراثها وعاداتها وتقاليدها ؛ ما هي المعلومات التي تزودنا بها المصادر التاريخية عن الشخصيات التاريخية التي اشتهرت وذاع صيتها من أبناء هذه القبائل والأسر ونبغت في المجالات المختلفة؟ 

‎الموضوع الثاني : هل حدثت هجرة أو هجرات عكسية: بمعنى آخر هل هاجرت قبائل وأسر من بلاد المغرب العربي إلى اليمن واستقرت فيها؟ إذا كان ذلك قد حدث فعلاً فينبغي أن يتم دراسة هذا الموضوع ودراسة علمية دقيقة ؟ ولابد من الرد على نفس الاستفسارات التي نحاول الإجابة عليها حول الموضوعين 

‎وأخيراً يجب دراسة العلاقات اليمنية المغاربية عبر التاريخ؟ 

‎يهدف هذا البحث إلى تسليط الضوء على ما تمكنا من جمعه حتى الآن من المعطيات والشواهد التاريخية والمادية الدالة على الأصول والجذور اليمنية لقبائل البربر في بلاد المغرب العربي، ومناقشة وتحليل هذه المعطيات بأسلوب علمي ومنطقي بعيداً عن التحيز والتعصب. 

‎سنبدأ أولاً بالتعريف بالبربر. 

‎البربر مجموعة من القبائل تشكل جزاءً هاماً من سكان دول المغرب العربي الكبير؛ منذ العصور القديمة سكن الجزء الأكبر من هذه القبائل في المناطق الداخلية وسكنت بعض القبائل الصغيرة منها في المدن والمناطق الساحلية في بلاد المغرب العربي، ومن أشهر وأكبر قبائل البربر: صنهاجة وكتامة وعهامة ولواتة وزناتة وزويلة، وتعتبر قبيلة صنهاجة أكبر وأشهر قبائل البربر التي انتشرت وسكنت على مساحة الأرض الواقعة بين المغرب الأدنى (الجمهورية التونسية والمغرب الأقصى المملكة المغربية). 

‎هل نستطيع تأكيد وإثبات أو نفي يمنية قبائل البربر في بلاد المغرب العربي من خلال الأدلة التاريخية والمادية المتوفرة لدينا في الوقت الحالي؟ 

‎وهل يمكن أن نبني استنتاجاتنا في هذا الموضوع للخروج برؤية حاسمة على المعلومات التي تزودنا بها أقدم مؤلفات المؤرخين والنسابة والرواة العرب المسلمين، والمراجع والدراسات والتقارير التي نشرت في العصر الحديث؟ هل تم فحص وتحليل هذه المعطيات ومقارنتها بالمصادر المادية الموجودة في تراث هذه القبائل كالتراث المعماري واللغوي والثقافي والغنائي ومقارنته مع ما يماثله من التراث اليمني؟ 

‎أمـا عن أصول وجذور هذه القبائل فالحقيقة أن انتساب قبائل البربر إلى اليمن قضية أثيرت منذ عصر ما قبل الإسلام ؛ ففي بداية العصر الإسلامي التقى المسلمون الفاتحون بأبناء قبائل البربر الذين قالوا لهؤلاء الفاتحين بثقة واعتزاز نحن من حمير هاجر أجدادنا من اليمـن إلى هذه البلاد. 

‎هذه القضية تناولها العديد من العلماء والنسابة والرواة العرب المسلمين في مؤلفاتهم وتركزت نقاشاتهم وتحليلاتهم بدرجة رئيسة على موضوع انتساب قبائل البربر إلى قبائل حميرية، وفي العصر الحديث ظهرت بعض النظريات والآراء حول أصل قبائل البربر ، فبينما يرى عدد من الباحثين بأن قبائل البربر يمانية من حمير يعتقد عدد آخر منهم بأن أصولها ترجع إلى قبائل سكنت بعض مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط، ويطلق هؤلاء على أبناء البربر الجنس المتوسطي وهذا مصطلح جديد ظهر في القرن الماضي، والرأي الثالث يؤيد هذه الافتراضية والتسمية (الجنس المتوسطي)، وذهب فريق ثالث من باحثين، أوروبيين في الغالب، إلى التأكيد بأن أصل قبائل البربر أوروبي، وأخيراً هناك من الباحثين من يفترض بأن البربر هم من الجنس الحامي (من الأفارقة الزنوج)، وهذه الآراء الأخيرة حديثة ويعتقد بأنها بعيدة عن الواقع والحقيقة ولا توجد أية أدلة تؤكد صحتها. 

‎يذكر عدد من المؤرخين في العصر الحديث (الألماني ماينهوف) بأنه يوجد وجود جنس حامي قدم من الجزيرة العربية واستقر في السودان وفي أماكن أخرى منها بلاد المغرب العربي، ويذكر العالم الفرنسي دو لافوس الذي صنف اللغات الأفريقية في سنة 1923م بأن اللغة الحامية هي لغة سامية تشمل البربرية والمصرية والكوشية، ومن خلال ذلك يؤكد بعض الباحثين في العصر الحديث بأن لغة البربر هي من اللغات السامية منهم العالم الألماني روسلر الذي يؤكد بأن اللغة البربرية هي إحدى اللغات السامية ويقول ( إن مجرد التفكير في إرجاع السامية والبربرية إلى أصلين مختلفين غير معقول) وذلك نظراً للتطابق والتشابه الموجود بينهما. 

‎أصل قبائل البربر من اليمن: 

‎هناك بعض الأدلة التاريخية والمادية التي تدل على أن أصل قبائل البربر من اليمن، وهذه الأدلة هي: 

‎تؤكد الدراسات الحديثة بأنه حدثت موجات هجرة كبيرة من الجزيرة العربية في فترات مختلفة من عصور ما قبل الإسلام ؛ يقـول العالم المصري الدكتور احمد فخري " هناك حقيقة مهمة وهي أنه في الألف الرابع قبل الميلاد وصلت هجرات من جنوب الجزيرة العربية إلى مصر ويذكر الدكتور أسعد أشقر بأنه : ليس من قبيل المصادفة أن تقع عام 3500 ق.م موجة هجرة من الجزيرة العربية إلى بلاد الرافدين وموجة هجرة إلى سورية ومصر في وقت واحد. 

‎ورد في المصادر التاريخية العربية ولإسلامية معلومات غزيرة عن استقرار جنود وعشائر يمنية في قرطاجة ومدن ومناطق مختلفة في شمال إفريقيا في عصر ما قبل الإسلام، يقول الشاعر الحميري : 

‎ومنـا بأرض الغرب جنـدٌ تعلــقوا إلى بربـر حتى أتـوا أرض بربـر 

‎ويذكـر العالم عبد الرحمن ابن خلدون في صفحة 96 في الجزء السادس من كتابه العبر ..بأن البربر ينتسبون إلى بربر الذي ينتسب إلى يعرب بن قحطان، وهوا هنا يتفق مع ما ذكره العالم الهمداني في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي الذي يقول في الجزء الأول من كتابه الإكليل: بأن قبائل صنهاجة وكتامة وعهامة ولواته وزناته تنتسب إلى بنو مرة بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن جيدان بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سباء بن يشجب بن يعرب بن قحطان. 

‎يجمع النسابة والمؤرخون العرب المسلمون على أن معظم قبائل البربر تنتسب إلى أمازيغ بن كنعان، ويذكر المؤرخ والنسابة أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني- توفي بعد سنة 334هـ/945م- في الجزء الأول من كتابه الإكليل (ص 45) بأن كنعان هو أحد أولاد عويلم بن سام وبأن موطن الكنعانيون الأصلي هوا جنوب الجزيرة العربية.

‎يؤكد أشهر وأقدم العلماء والنسابة والرواة العرب المسلمين في مؤلفاتهم بأن غالبية قبائل البربر ينحدرون من أصول يمنية حميرية ، ومنهم العالم ابن خلدون. 

‎وجود تشابه لغوي أكثر من مائة كلمة في لغة البربر ولا تستخدم هذه الكلمات إلا في اليمن والجزيرة العربية. 

‎وجود تشابه بين كل من الأغاني والموسيقى الشعبية في بعض المناطق اليمنية وأغاني وموسيقى البربر، وقد أكدت هذا التشابه الكبير دراسات حديثة لعلماء أوروبيين في مجال الموسيقى أقدمهم روبرت لخمان سنة 1922م ؛ وهانس هلفرتس الذي قام في النصف الأول من القرن العشرين (1933-1935م) باختيار أغنيتين يمنيتين من محافظة صنعاء : الأغنية الأولى من منطقة بني إسماعيل في مديرية حراز والأغنية الثانية من منطقة بني مطر وتمت مقارنتهما بأغنيتين من أغاني البربر من منطقة القبائل في الجزائر، فوجد تشابه كبير بينها وتماثل في الإيقاع والترنيمة وذكر هؤلاء العلماء بأن وجود هذا التشابه الكبير لا يحدث مصادفة بل يحتم على المرء افتراض وجود علاقة حميمة بين البربر واليمنيين، فالسمات الموجودة في الأغاني والألحان التراثية اليمنية موجودة تماماً في الأغاني والألحان التراثية البربرية (والتصفيق والمُحجرة)، وتظهر بوضوح كامل في طرق أدائها وألحانها التي تتطابق تماما. 

‎وجود تشابه بين فنون وأساليب وطرز العمارة والزخرفة في اليمن وفي مدن مناطق مختلفة في بلاد المغرب العربي منها المناطق التي تسكنها قبائل البربر، مثال ذلك تشابه العمائر السكنية المتعددة الطوابق في جبال اليمن مع مثيلاتها في جبال أطلس المنطقة الرئيسة لقبائل البربر، وهذه المباني السكنية ذات سمات معمارية واحدة. 

‎وجود تشابه في طرق وأساليب الزراعة والري وبناء المدرجات الزراعية وقنوات الري في كل من اليمن وبعض المناطق في دول المغرب العربي. 

‎الخاتمة: 

‎في كل بلاد المغرب العربي حاليا توجـد الكثير من القبائل والأسر التي يعود أصلها إلى اليمن، بعضها هاجرت من اليمن قبل الإسلام والبعض الآخر هاجرت إليها في العصر الإسلامي من هذه القبائل قبائل البربر التي انتشرت في البوادي والحواضر في بلاد المغرب العربي ومارس ويمارس أبنائها حياتهم الاجتماعية والاقتصادية على نحو يشبه كثيرا حياة القبائل اليمنية، لقد ساهمت هذه القبائل جميعها في الفتوحات ونشر الدين الإسلامي والعلم والثقافة والبناء والتنمية وتطوير البلدان والمناطق التي استقرت فيها، وأثبتت هذه الهجرات عبر التاريخ مقدرة اليمني الفائقة على الاندماج والتعايش والانسجام مع كل المجتمعات والثقافات والأمم والشعوب في كل العصور، وبرغم مرور مئات السنين على هجرات اليمنيين واستقرارهم في تلك البلدان لم يستطع الزمن محو وطمس هويتهم اليمنية ومساهماتهم الرائدة في بناء وتعمير وتطوير تلك البلاد ؛ لليمنيين تأثيرات وبصمات جميلة وإبداعية تظهر حتى اليوم بوضوح على العمائر والمنشآت التاريخية التي شيدوها أو شاركوا في بنائها في بلدان المغرب العربي كالجوامع والمساجد والمدن والقصور والحصون والقلاع والمنشات التجارية والسكنية والخدمية، كما تظهر في الفنون والآداب واللغة وفي العادات والتقاليد. 

‎المعلومات المتوفرة حالياً عن يمنية قبائل البربر عبارة عن معلومات وروايات وتحليلات لما كتبه الكثير من المؤرخين والنسابة العرب المسلمين وللنتائج التي توصلت إليها دراسات سطحية متواضعة لبعض الباحثين العرب والمسلمين والأوروبيين في العصر الحديث عن أصل قبائل البربر الذي يعتز ويفخر الكثير من أبنائها حتى اليوم بانتسابهم إلى اليمن ؛ هذه البحوث المتواضعة يجب أن تكون حافزاً لإنجاز دراسات علميـة متعمقة في هذا الموضوع وفي موضوع الهجرات اليمنية وإنجازات اليمنيين في البلدان التي هاجروا إليها واستقروا فيها عبر التاريخ، ولكي تكون هذه الدراسات كاملة لابد من التواصل معهم والإطلاع على ما لديهم من وثائق ومصادر ومراجع، وكل ما كتب عنهم في تلك البلدان قديماً وحديثاً. 


منقول عن :


‎صاحب المقال : د. محمد العروسي))-*

‎أستاذ الآثار والعمارة اليمنية بجامعةصنعاء