تاريخ ليبيا قديماً وحديثاً

تاريخ ليبيا قديماً وحديثاً

لقد كُتب الكثير عن تاريخ ليبيا قديماً وحديثاً، وتطرق البُحاث والمؤلفين إلى العديد من الأحداث المستمرة منذ قبل التاريخ وحتى يوم الناس هذا.. وقد نال اسم "ليبيا" وسبب إطلاقه على هذا المِصر بعضاً من هذا الاهتمام، وإن لم يكن شاملاً وممحصاً، وأغلبهم لم يعارض الوصف الذي أورده الإعلام "الفرعوني" لقبيلة ليبية جاءت غازية كغيرها، وبعضٌ آخر لم يقف أصلاً عند التسمية معتبر ذلك مسلمة من غير المجدي التطرق إليها والبحث في أصلها وتفسيره والاستدراك على ما قيل فيها وكتب!
______
[ ريبو – ليبو ]
• قال هنري لوت:
[ يرى علماء الشعوب البدائية في أصل شعوب الصحراء الكبرى موضوعاً معقداً .. وتعود كلمة (الليبي) إلى قبيلة (ليبيو) التي هاجرت إلى تلك المناطق عن طريق البحر الأبيض المتوسط، وكان يعتبرهم المصريون آنذاك غرباء ويطلقون عليهم اسم شعوب البحر!! ]
• إن هذا القول من وجهة نظرنا كلام مثير للريبة والدهشة، بل إن هذا القول يعتبر مجرد خارقة في غير أوانها، إن رؤية العلماء المختصون بالشعوب البدائية لأصل شعوب الصحراء الكبرى باعتبار ذلك موضوعاً معقداً إنما هي في نظرنا محضُ ذريعة مفضوحة لكي يُجانب أولئك حقيقة الأمور، فسكان الصحراء الكبرى وأجزاء أخرى شاسعة من أفريقيا هم من عربٍ مقيمين أو مهاجرين منذ أزمنة بعيدة جدا. أما قول هنري لوت أن المصريين يطلقون على قبيلة الليبو اسم "شعوب البحر" فهذا قول لا ينأى بالليبيين عن موطنهم، حيث نعلم أن شعوب البحر "أو جنس سكان البحر المتوسط هم فرع من حضارة انتشرت على شاطئ أفريقيا الشمالي ووصلت إلى أوربا حوالي "3000 ق.م" . وعند التدقيق نجد أن المصريين كانوا لا يطلقون على الليبيو اسم (شعوب البحر)، فقد كان هناك تفريق وتحديد ما بين الليبو وما بين شعوب البحر، وهذا يظهر خلال حروب مرنبتاح ورمسيس الثاني ضد الليبو فانظر:
[ واستمر ت القوات المصرية تطاردهم حتى جبل (قرون الأرض)، وقُتل من الحلفاء (6200) من الليبيو، و (2370) من رجال البحر] فالليبيون حتى في زمن حروبهم ضد الفراعنة كانوا يعرفون باسمهم، وأن هناك تفريق بينهم وبين أقوام البحر بالرغم من تحالفهما معاً في فتراتٍ محددة، وهذا التفريق يدحض رأي هنري لوت ..
أما قول هنري لوت بأن كلمة (الليبي) تعود إلى قبيلة (ليبيو) فهذا يدل على أن هنري لوت هذا أما أنه يجهل الأمر، وأما أنه لم يمحص لفظة (ليبيو) ذاتها، وأن الليبيو قد هاجروا ولكن ليس عن طريق البحر المتوسط، بل عن طريق بحر آخر ملتهبٌ أمواجهُ. كثبان رملية تذروها رياح القبلي على امتداد الصحراء. ولا يلام هنري لوت من حيث عدم إدراكه لمعنى كلمة (ليبيو) بالتحديد لأنها كلمة باللغة العربية الفصحى وهي لغة بعيدةٌ عن ثقافته.
إن لفظة ليبيو متأتية أساساً من عامل العطش، وهي ليست لفظة تعني قبيلة كما أدعى هنري لوت.
• [اللِّيبو] ونطقها الدقيق باللغة العربية الفصحى [اللُّوب] وتعني في واقع الحال صفة تحمل "كارثة العطش". لقد انقضى زمن مديد يقدر بحوالي ألف وخمسمائة سنة، وأصبحت صفة تحنو وصفة تمحو مجرد صفة "لُوب". لقد مضت القرون عبر مسار الزمن واندثرت ألوان التحنو وبهت برق التمحي وبهاء البورق، لقد أظهر تواصل الجفاف حجم الكارثة فنعت سكان وادي النيل جموع المهاجرين ووصفوهم بأنهم "لوبو" أو لُوب وهو نعت يمثل عين الحق. فلفظة "اللوبو" آتية من المعنى الذي يفهم به (العطش أو حالة العطشان في اللغة العربية). فكلمة اللُّوب تعني بالتحديد: [العطش أو استدارة الحائم حول الماء وهو عطشان ولا يصل إليه]. هكذا حرفياً ولا أكثر من ذلك ولا أقل!!
• إننا ندرك منذ البداية أن مشكلة الليبيين هي (العطش والجفاف وانبثاق الصحراء). إننا نرى الليبيين منذ أن تم تصويرهم على ما يعرف بــ (صلاية صيد الأسود) نرى:
[ إن رجلين من الصيادين يحملان لوائين تعلو كل منهما هيئة الصقر ورمز المعبود (حور) - والمعروف تاريخياً أن الصقر إله ليبي وأنه إلى يومنا هذا يسمى (طير حر)، وأن هذه التسمية ولا شك تعود إلى اسمه القديم (حور) - ولعلهما يرمزان بذلك لأكبر الأقاليم غرب الدلتا، ويلاحظ أيضاً إنه يتدلى خلف كل رجل ذيل ذئب أو ابن آوى، وأن كل رجل وضع ريشة أو ريشتين فوق رأسه. كل هذه الظواهر ترجح أن القوم ليبيين، وفي صلاية أخرى ظهر المللك وهو يضرب خصومه وأمامه علامتان تعبران عن اسم منطقة يحتمل أن تكون [ وع ] أو [ عش ]، والمرجح أنه اسم أقليم يتألف من صورة "خطاف وحوض ماء"]
• ومن وجهة نظري أن لفظتي (وع) و (عش) يدلان أو يثبتان حالة سكان ليبيا وطبيعة أرضها آنذاك، فالوعوع تفيد: تزعزع القوم وضجيجهم، وهذه الوضعية تنجم عن الجفاف والعطش، وتدل نفس اللفظة أيضا (وَعْوَع) على الذئاب وابن آوى بالذات، وهذا الحيوان نرى التصاق ذيله بملابس قدماء الليبيين، كما أن أحدى الصفات التي أطلقها الفراعنة على شريحة ليبية هي صفة (السبد) أي الذئاب.
أما لفظ (عش) فهي اللفظة التي تنطق أيضاً هكذا (آش) في بعض الترجمات، و(عش) وهو الذي يعتبر بمثابة إله ليبي ويسمى هكذا [سيد ليبيا] في الأساطير. وهذه اللفظة تدل على الجفاف الذي يعتبر في تلك العصور هو الذي يسود ليبيا. وفي اللغة العربية نجد: (وعشت النخلة) أي تيبس سعفها، و "عشَّش الكلا" أي "تيبس". فالأسماء أو الألفاظ القديمة في تاريخنا التي تبدو لنا اليوم غريبة وغامضة هي مجرد ألفاظ عربية فصحى وواضحة في زمانها ..
أما رسم "الخطاف وحوض الماء" فإنه فيما أرى مجرد رمز إلى حالة الليبيين بالذات ومسلكهم ومحاولتهم الدائمة في الوصول إلى الماء - فالخطاف المرسوم يرمز إلى موسم الصيف، فهو طائر يظهر في ليبيا صيفاً حيث اشتداد العطش، وأن هذا الخطاف يريد الوصول إلى حوض الماء، فرسم الخطاف وحوض الماء مجرد استعارة رمزية لحالة الليبي وحومانه حول نهر النيل. ومن هنا نُدرك دقة الوصف الذي أطلقه الفراعنة على قدماء الليبيين أنهم "لوب" أي عطاش يحومون حول الماء دون الوصول إليه .. ونظراً لهذه الدقة في التسمية والرسم الرمزي نرى إن تلك التسمية قد التصقت بسكان غرب مصر منذ أن انطلقت التسمية وحتى يومنا هذا. لقد اطلقت تسميات وأسبغت نعوت كثيرة على قدماء الليبيين، لكن لا تسمية قُدر لها الاستمرار لتشمل وطن وساكنيه في آنٍ معاً وإلى الأبد بخلاف هذه التسمية.
ولقد ورد اسم (ليبيو) على الآثار المصرية كنص أثري مكتوب خلال فترة:
[ لا تعود إلى أبعد من عهد – مرنبتاح – الذي غزت شعوب البحر في عهده مصر متحالفة مع أهل ليبيا، وقد ورد ذكرهم في نقش الكرنك المنسوب إليه، والملك مرنبتاح هذا من ملوك الأسرة التاسعة عشرة، وقد حكم مصر في النصف الأخير من القرن الثالث عشر قبل الميلاد، فتسمية الإقليم وأهله بهذا الاسم الذي قُدر له أن يبقى وأن يستمر إنما يعود إلى عهد الدولة الحديثة في مصر وليس إلى ما قبل ذلك على الأقل كنص مكتوب، وهذا الاسم بالذات هو الاسم الذي عرفه اليونان وعرفناهُ عنهم في الذي وصلنا من تراثهم الفكري والعلمي ..]
• أما بالنسبة لاسم "ريبو" فهو يحمل حقيقة أصل سكان ليبيا، إنهم سكان من الجنس العربي (ريبو =عريبو، أي [عرب]. غير أننا للأسف دائماً نعثر على ألتباس فيما يتعلق بهذا الاسم الذي دائماً يقترن مع (ليبيو) فقد تناولهما البعض، فمنهم من يرى أنهما مجرد اسم واحد (ليبو – ريبو). ومنهم من يرى بالأخذ بإحداهما باعتبار أن الآخر مغلوطاً الخ.
وأنه من وجهة نظري نجد أن اللفظين (ريبو / ليبو) صحيحين وكل منهما يدل على معنى سليم بذاته، وأنهما يثبتان واقعاً مُعاشاً منذ تلك الأزمنة التي ظهر فيها وحتى عصرنا هذا، فصفة (ريبو) وصفة (ليبيو) هما إثبات لأصل شعب ووصف حالته معاً، وأن ذلك الأصل وتلك الحالة ينطقان بتعبير اللغة العربية السائدة والسارية اليوم بهذه الصورة [عرب عطاش]، وهي تسمية لم يجانب الإعلام الفرعوني فيها الحقيقة ..
• وحول "الليبو" عبر التاريخ نجد ذكرهم قد جاء أيضاً: [في تاريخ حياة (آمون – أوم – أوتب) مع شعوب وأسماء بلدان أفريقية في عصر الملك رمسيس السادس من الأسرة العشرين، وملامحهم بيض البشرة وشعرهم أحمر وزرق العيون، كما نرى في الصور التمحو. ويلبسون نقبة قصيرة فوقها رداء طويل مزين برسومات، تاركين أحد الأكتاف عاريا، والأيادي والأذرع يزينها الوشم، ظهروا لأول مره بدون ذكر أسمائهم في نقوش تل العمارنة في عهد الملك أخناتون من الأسرة الثامنة، ثم ظهروا في وظائف عديدة في البلاط الملكي، ويُجمع العلماء على أن الليبيو كانوا يسكنون منطقة (برقة) الحالية، وربما عاش اسمهم حتى الآن في منطقة [حاتيت الليبيوك] جنوب سيوه وفي منطقة [مونجار الليبيوك].
كما تفيدنا المراجع المتاحة أيضاً: [بأن الليبيو قد ظهر اسمهم أول مرة في عهد رمسيس الثاني (1290 – 1223 ق.م) من الأسرة التاسعة عشر على لوحة برج العرب التي عثر عليها في العلمين وتدل على أن إقليمهم قد أُخضع لذلك الملك، ثم ورد ذكرهم في زمن مرنبتاح (1223 – 1211 ق.م)، حيث صد هجوماً شنوه على مصر في العام الرابع أو الخامس من حكمه، كما أشير إليهم أيضاً في زمن الملك شيشنق الرابع من الأسرة الثالثة والعشرين (763 – 757 ق.م)، وكان الليبيو يقطنون منطقة الجبل الأخضرإلى الغرب من القبيلتين السابقتين، وقد اشتق من اسمهم اسم ليبيا، أما ملابسهم وسماتهم البشرية فقد ظهرت في مناطر الحرب التي نشبت بينهم وبين رمسيس الثالث (1198 – 1160 ق.م) من الأسرة العشرين، لقد ظهرت عيونهم في بعض مناظر معبد مدينة "هابو" ورءوسهم تتحلى بذؤابة (شوشة) مع ريشة أو ريشتينٍ]
ونعثر على ذكر الليبيو في عهد الملك مرنبتاح:[ حيث كانت أخطر غزوة تعرضت لها مصر، وقد سجلت أخبارها في أربعة مصادر هي: (نقوش الكرنك الكبيرة / عمود القاهرة / لوحة اثريب / أنشودة النصر). فقد ذكر من ضمن من ذكر أن رئيس الليبيو (مريائي بن دد) قد انقض على أقليم تحنو برمته ومعه (شردانا) و (شكلش) آخذا كل محارب حسن، وكل رجال القتال في بلاده، وقد احضر زوجه وأولاده وقد وصل إلى الحدود في حقول [بر – إر].
ويفهم من هذا النص أن ذلك القائد "مري بن دد" قد تحالف مع شعوب أخرى من جزيرة "سردينيا" وجزيرة "صقلية" وجزيرة "كريت" وغيرهم من شعوب البحر، وأنه لم ينقض على إقليم تحنو، فالتحنو والتمحو مجرد نازحين في حاجة للماء، وأن الصحيح والأنسب أن "مري بن دد" قد انقض مع الذين تقوى بمساندتهم من شعوب البحر على الفراعنة الذين يصدون العطاش لكي يحصل على موئل لإنقاذ بلده، ونستكشف ذلك ونستقرؤه من ذكر المصادر لحقول [بْر – و – أرْ]، فماذا يريد زعيم الليبيين من شريحة مهاجرة من أبناء وطنه لكي ينقض عليها؟ إنه عندما ينوي معارك مع سكان وادي النيل متحالف مع شعوب البحر فإنه ليس من الحكمة في شئ أن يخلق لنفسه عداوة مع بني شعبه فيما نرجح! وإنه لمن المؤسف أن يذكر مثل هذا اللَّغط في التاريخ ولا تذكر الأسباب، والأسباب الخطيرة التي أدت بمريي بن دد إلى الوصول إلى جزر البحر المتوسط وإقناع شعوبها بالهجوم – إنه يتضح بجلاء أهمية ليبيا ورجالها في ذلك الوقت، تلك الأهمية التي سمع من خلالها حكام شعوب البحر آراء الليبيين ووقفوا معهم في حرب ضد دولة متحضرة ومرهوبة الجانب – إن الخطوط العراض في التاريخ قد طمست، وأن أحداثاً هامة سجلت على آثار الفراعنة ثم إنها كشطت - إن من الأسباب التي دعت إلى الهجوم على مصر في عهد مرنبتاح المجاعات والعطش والفاقة بدليل قول مرنبتاح نفسه [وكان ثائراً كالأسد: إنكم تنزعجون كالطيور .. هل ستخرب البلاد؟ وأقوام الأقواس التسعة قد أتوا إلى أرض مصر ليبحثوا عن طعام لبطونهم!! هكذا خاطب الفرعون جيشه.
ولعل ما يدعم قولنا بأن هجوم مريئ بن دد على وادي النيل المجاعة والعطش ذلك الأثر الأثري المثبت:
[ النقش الذي خلفه الملك "أوناس" والذي يمثل البدو الخائفين الذين صادفهم، إن الصورة طبيعية إلى درجة كبيرة، أجسام نحيفة، امرأتان تجهدان من أجل إنقاذ شخص انهارت قواه، ولا يمكن أن يكون المشهد لواقع مصري ولا يمكن أن تفهم سوى أن مجاعة قد أصابت قبيلة بدوية في الصحراء، وأن الملك قد تفادى هذه الكارثة بأن أحضر هذه القبيلة، ومما يثير الانتباه أن المجاعات في مصر القديمة لا تذكر أبداً بينما نسمع بها غالباً من خلال الفترة الأولى، وكان المرء يسجل هذا ويبالغ في وصف مثل:
"إن الجنوب مات برمته بسبب الجوع وأكل كل واحد أولاده" ، ويعتقد باحتمال وجود ارتباط بين جفاف الصحراء الثابت جيولوجياً من جهة وبين انهيار الدولة القديمة، وبالأحرى بين جفاف الصحراء والنزاعات مع الليبيين في ذلك الوقت !!].
وهكذا يتضح من خلال شذرات التاريخ أن حالة بائسة من جراء جوائح الطبيعية قد أحاقت بالليبيين آنذاك مما ألزمهم على التحالف مع أقوام البحر من أجل الوصول إلى المياه ومصادر الحياة في الوادي لإنقاذ عيالهم وما تبقى من مواشيهم، وبمعنى مختصر "من أجل البقاء وليس حباً في الاقتتال وسفك الدماء".
• إن الليبيين القدماء قبل أن يتجهوا إلى وادي النيل قد جربوا كل ما من شأنه أن يجنبهم قبل كل شئ مغادرة وطنهم !! فالهجرة والابتعاد عن الوطن ليست من الأمور اليسيرة، لقد جربوا حظهم في اتخاذ إجراءات شتى وكابدوا أموراً تصل إلى حافة الموت ذلك ما نجد له صدى عبر التاريخ الليبي نختصر منها ما يلي:
• جلب الليبيون القدماء التراب ونشروه فوق الأرض التي حولها الجفاف إلى مسطحات ملحية سبخة مركزة المرارة، وشرعوا يجربون حظهم البائس في الزراعة تحت وهج شمس الصحراء الأفريقية في بحار من السراب اللاذع!!
• اصطادوا أسراب الجراد وجففوه وطحنوها ونثروا دقيقه فوق اللبن كنمط من الغذاء في انعدام الغذاء على امتداد سنوات الفاقة ..
• استحلب الليبيون أعالي سيقان النخيل للحصول على عصير كغذاء وشراب في أزمنة الجوع والعطش والترحال وازدحام الهموم ..
• التقط الليبيون الحيات والعقارب وكافة الزواحف الصحراوية واقتاتوا بها رغم انعقاد سمومها تحت وقدة شمس الفيافي القاحلة، إن للجوع أنيابٌ أشرس وأخطر من أنياب الأفعى ..
• اتجهوا صوب الجنوب لمحاربة أسباب زمجرة رياح القبلي التي جففت المياه وأتلفت المزروعات.
• مارسوا أنواعاً من السحر من أجل استنزال المطر عندما انحسر حزامه مبتعداً وحلت الصحراء محل الأراضي التي كانت خضراء.
• نام الليبيون متوسدين قبور أجدادهم طالبين مشورة أرواحهم في هيئة ما يراه النائم.
لقد عانى الليبيون أهوالاً تتلوها أهوال، ودفعوا الثمن باهظا، ولم تكن المعركة مع العطش عبر آلاف السنين متكافئة، لقد كانت طويلة حقاً، ومريرة ومهلكة، مما أجبرهم على ترك تربة وطنهم، تلك التربة التي كانوا يقسمون بها ويلعقونها بألسنتهم عندما يحلفون أيمانهم في إشارة واضحة بكل جلاء على محبة جارفة لأرضهم لا نظير لها عبر تاريخ الأوطان.
كل هذا مدَّون ومثبت في تاريخنا ..
• وبالإضافة إلى تلك المعركة مع العطش نفسه كانت هناك معاركهم الجانبية مع بني الإنسان - إن إحدى المعارك التي خاضها مريئ بن دد ضد مرنبتاح على سبيل المثال كلفته خلال نصف نهار فقط (6200) ستة آلاف ومائتي قتيل عطشان نصف ميت قبل أن تبدأ المعركة، هذا بالإضافة إلى (2370) ألفين وثلامائة وسبعين قتيلا من شعوب البحر المساندة، وبلغ عدد الأسرى حوالي (10000) عشرة آلاف أسير. وجاء في أنشودة النصر:
[ بلاد التمحو كسرت في مدة حياته!! الملك أدخل الرعب في قلوب المشوش .. وهو الذي جعل الليبيو الذين وطئوا مصر ينكصون على أعقابهم ]
كم نجد في أنشودة النصر أموراً عجيبة ومدهشة منها ما يستدل به على أنه خلال ذلك الزمن كانت آبار المياه تقفل من قبل سكان وادي النيل، وأنهم كانوا يحرصون المواقع خلال الليالي، وأنهم كانوا مستائين جداً، وأنه لا مجال لديهم حتى للحديث مع بعضهم، وأن هناك أسوار وقلاع للحراسة والمراقبة والدفاع؛ جملة هذه المعاني نتيقن منها بالفعل من خلال استقراء ما جاء في الأنشودة على هذا النحو:
[ .. وقد أشرق السرور العظيم على مصر وانبعث الفرح من بلدان مصر .. آه إنه حسن أن يجلس الإنسان ويتحدث، والناس تغدو وتروح ثانية دون أي عائق، وليس هناك خوف في قلوبهم .. وقد تركت المعاقل وشأنها وأصبحت الآبار مفتوحة ..ومعاقل الأسوار أصبحت هادئة ولا يوقظ حراسها إلا الشمس، وليس هناك نداء بالليل "قف .. قف" بلغة الأجانب!!]
ومن خلال الإطلاع على النصوص المتعلقة بالحرب الليبية الأولى نجد [ العنصر الغالب عليها هو عنصر الليبيو وأن قادتهم الذين هلكوا في المعارك هم "دد / مشكن / مريي / نرمر / تثمر" ونعثر على أعداد وأرقام مثلاً: كومة الأيادي المقطوعة كتب فوقها الأعداد (12660) و (12535) و (12532)، وكومة أعضاء التناسل كتب فوقها (12535) و (12680)]
• غير أننا لا ننظر إلى كل ما دونه الإعلام الفرعوني على أساس أنه يمثل ويثبت عين الحق بكل دقة وهذه الملاحظة يدعمها هذا السياق التاريخي:
[ .. ظهرت بدايات لغة الحرب التي أصبحت نموذجاً تحتذي به كل حكومة وتميزت بإحصاء ما يسمى بالغنائم. واختلاف مصطلحات خاصة وكتابة التقارير بلغة الملَق، فإعلان نهاية الحرب لا يقول: [ إن الحرب قد انتهت] بل يقول " إن القائد الليبي التعيس المهزوم وحيداً تحت جنح الظلام دون ريشة على رأسه قد أنهزم!!" وهي صياغة عليها بصمات واضحة لجهاز صحفي متدرب. أما التقارير ذات اللهجة الشعرية فقد جاءت من أحد الضباط العاملين في تحصينات الحدود، وفي هذا التقرير ملامح إخفاء الحقائق عن الحاكم وتضليله بالأساليب الإنشائية، فالضابط يخبر فرعون بأن:
مريي بن دد [قد انتهى إلى الأبد] دون أن يكون لديه دليل ما يدعوه، إلى هذا الزعم، بل إن رؤساء القبائل ومن بينهم مريي بن دد كانوا في ذلك الوقت بالذات يستعدون للغزوة الثانية .. يقول التقرير:
" مريي المهزوم مرَّ بي من هنا"
"وقد هربت أطرافه بسبب جبنه"
"لقد اجتاز عني بسلام .. تحت جنح الظلام .. إنه مهزوم"
"وكل الآله تقف مع مصر"
• بالإضافة إلى ظهور التقارير الديوانية بلهجتها الإدارية الواضحة، ظهرت أيضا تقارير المخابرات التي تعمل جاهدة لكي تقول لفرعون ما يريد أن يسمعه من أخبار سيئة عن أعدائه حتى إذا اضطروا إلى اختلاق معظم الأخبار، فعن ليبيا يورد تقرير المخابرات الذي قرأه فرعون "إن كل شيخ مسن يقول لأبنه : (واحسرتاه لليبيا) (وأن الناس قد توقفوا عن الاستمتاع بملذات الحياة وصاروا يقولون إن الاختفاء حسن، وأن السلامة في الكهوف]
ومهما تكن من أمور فقد تجنب الليبيون القدماء إزعاج سكان وادي النيل قدر الطاقة، ولقد جربوا كل شئ قبل أن تتجه جموعهم شرقاً نحو "أريتاي" الريِّة بالماء مصدر الحياة*. ولعل في تسمية سكان وادي النيل أنفسهم للجموع الليبية النازحة باسم هو صفة [ اللوب / العطاش ] بالذات تبرئة لهم من كل ما يمكن أن يدينهم عبر تلك الأزمنة الظامئة !!
.....................................................
المراجع والمصادر
التي وردت في هذه المقالة تحديداً ومنها:
- هنري لوت -الطوارق - [ الصحراء الكبرى] منشورات مركز جهاد الليبيين (1979)، ترجمة عماد غانم.
- د. أحمد فخري . مصر الفرعونية - مكتبة الأنجلو المصرية - ط / 4 عام (1978).
- عبد اللطيف البرغوثي - التاريخ الليبي القديم من أقدم العصور حتى الفتح الإسلامي منشورات الجامعة الليبية - (بيروت) ط / 1 عام 1971.
- محمد مصطفى بازامه - تاريخ ليبيا في عصور ما قبل التاريخ . منشورات الجامعة الليبية 1973 . بيروت.
- مصطفى كمال عبد العليم - دراسات في تاريخ ليبيا القديم - منشورات الجامعة الليبية - المطبعة الأهلية - بنغازي - 1966.
- الصادق النيهوم - تاريخنا - المجلد الأول.
- د. رجب الأثرم - محاضرات في تاريخ ليبيا القديم
- ما نفرد فيبر - المصريون القدماء والصحراء الكبرى - منشورات مركز جهاد الليبيين - الدراسات المترجمة (2) طبعة عام 1979.