ما معنى التجريدة؟ وما هي تجريدة حبيب وهل وقعت فعلا؟
تجريدة حبيب بالتفاصيل منقولة عن مشائخ قبيلة العبيدات ومشائخ عرب الغرب في درنة
ما معنى التجريدة؟ وما هي تجريدة حبيب وهل وقعت فعلا؟
التجريدة باللهجة الليبية الشرقاوية تعني الحملة أو المَدَد، وقصة تجريدة حبيب تواترت أخبارها وتناقلت أحداثها على ألسنة الرواة كابراً عن كابر وخلفاً عن سلف، وقصة تجريدة حبيب هي ولا شك قصة حقيقية واقعية، ويرجِّح الباحثون والمؤرخون أنها وقعت في بداية القرن الثامن عشر الميلادي، أي في أواخر العهد العثماني الأول، ولا شيء ثابت عن تاريخها بسبب الأمية والجهل المتفشيان في شرق ليبيا حينذاك وغياب الكتابة والتدوين
تبدأ القصة بقبيلة أولاد علي، وهي قبيلة كبيرة وقوية جدا، حيث أنها بسطت نفوذها على جزء كبير من شرق ليبيا الممتد من منطقة رأس التراب غرباً (منطقة تقع غرب شحات ) وحتى مناطق هضبة البطنان (طبرق) شرقاً وكانت قبيلة ذات بأس تحسدهم عليه القبائل الأخرى، ولا توجد قببلة واحدة في الشرق تستطيع مواجهة قبيلة أولاد علي، الأمر الذي أصبح مقلقا بالنسبة لبقية القبائل
وكانت بداية الصراع بين القبيلتين (أولاد علي والعبيدات) على الأراضي الخصبة والمياه التي كانت ولا زالت تتمتع بها مدينة درنة، وعلى الزعامة في منطقة الجبل الأخضر، فحدثت الكثير من المعارك بين القبيلتين وكان في كل مرة يهزم العبيدات وينتصر أولاد علي نصرا كاسحا يزيد فيه نفوذ أولا علي ويُذل فيه العبيدات
كانت قبيلة الحرابي قد جعلت الشيخ (عبد المولى الأبح بن الواعر بن عبيد) زعيماً لها، حيث قام هذا الرجل بتوحيد صفوف الحرابي من أجل وضع حد للمذلة والإهانة ومواجهة أولاد علي بقوة، ويذكر المؤرخون أنه في المعركة الوحيدة التي انتصر فيها الحرابي؛ أخذ عبد المولى طفلاً من قبيلة أولاد علي كان قد مات أبواه، وقام بتربيته مع سائر أبنائه، واسمه (النعاس) وكان يلقب (النعيعيس) وجعله كواحد من أبنائه.
نشأ النعيعيس هذا وشبَّ في بيت (عبد المولى الأبح) والذي كان يحبه كثيراً كحبه لأبنائه، لكنَّ النعيعيس كان يضمر شيئاً في نفسه، ولم ينس ما حلَّ بقومه (أولاد علي) من قتل وتشريد، وانتهز هذه الفرصة عندما ذهب للرعي مع أحد أبناء (الشيخ عبد المولى) فقتله و وارى جثته في التراب وأخذ منه لباسه الذي كان ملطخاً بالدماء وواراه داخل برذعة الحمار ورجع وأنكر رؤية الغلام.
عرف عبد المولى أن النعيعيس هو قاتل ابنه، ولكنَّه لم يقتص منه وعفا عنه لأنه كان قد عاش في حمايته، وطلب من النعيعيس الرحيل بعيداً عنه حتى لا يتعرض للقتل، غادر النعيعيس بيت (عبد المولى) ونفسه لا تزال تكتم غيظاً على عبد المولى وعشيرته، ثم دخل النعيعيس الحربية العثمانية حتى صار من كبار الضباط في الحربية، وصار من أبرز القياديين في درنة؛ الأمر الذي جعله يأتي بأبناء عمومته من أولاد علي من هضبة البطنان إلى درنة وبسط نفوذهم في المنطقة.
وقام نعيعيس بإدخالهم معه في الحربية العثمانية، وقلَّدهم مناصب مرموقة في درنة، وبدأ يصبُّ العذاب هو وعشيرته على قبيلة الحرابي وحلفائهم؛ وخصوصاً (العبيدات)
بعد أن وصل نعيعيس إلى رتبة قوية أمر بالقبض على عبد المولى وسجنه مكبلاً بالحديد بجوار سور من أسوار مدينة درنة، وتقول الرواية أن ولدين من أبناء عبد المولى تمكّنا من إنقاذه وذلك بحفر نفق سري تحت السور، فأخذ الولدان أبيهما وهو مكبل بالحديد و وضعاه على حصان وهما على حصانين آخرين ولاذوا بالفرار.
غير أنهم سرعان ما انكُشِفَ أمرُهُم، وخرج القوم وفي مقدمتهم النعيعيس ليقتفوا آثار عبد المولى وابنيه، وبالنسبة لعبد المولى فإنه كان قد ضايقته الأغلال كثيراً؛ وذلك لثقلها وكبر حجمها، فطلب من ابنيه أن يخبئوه في أحد المغارات ويذهبا حتى لا يتم الإمساك بهم جميعاً، فلبى الولدان طلب أبيهما وخبئاه في أحد المغارات، ولكن النعيعيس كان ذكياً فعرف أنهما قد تخلصا من الحِمل الذي كان معهما وذلك لسرعة الفارسين في المسير.
فأمر جنوده بالبحث عن هذا الحمل وترك الفارسين، فوجد الجنود عبد المولى وسلَّموه إلى النعيعيس الذي أمر بقتله في الحال، كما أمر جنوده بقطع رأسه وتعليقه أمام القصر عدة أيام حتى يكون عبرة لغيره، ثم أُخِذَ رأس عبد المولى ودُفِنَ مع الجثة بجانب سور درنة الغربي في أعلى الجبل، والذي قال فيه أحد أحفاده الشاعر سالم البنكة العبيدي عند رجوعه من معتقل العقيلة:
سلامات يا درنة حلال مزارك
راس جَدَّنا مبني عليه اجدارك
وقد كان لمقتل الشيخ (عبد المولى) أثره البالغ في نفوس (الحرابي) وجميع محبيه من القبائل الأخرى، إذ أن بموته فقدوا أعظم شيوخهم وقادتهم، ولكنهم كانوا مستضعفين أمام هيبة وقوة أولاد علي فلم يستطيعوا فعل شيء بل لم يستطيعوا حتى مجرد التفكير في فعل شيء ما.
وكان من بين أبناء عبد المولى ابن اسمه (حبيب) نشأ لصاً وقاطعاً للطريق، يقوم بالسطو على المواشي ويعترض طريق المارَّة، وفي اليوم الذي قُتِلَ فيه أبوه كان مختفياً جوار غنم ترعى بغابة بين القبَّة ودرنة تُدْعى الزردة، وكان يتحين الفرصة كي يسرق منها، فتفطن له الراعي فسأله حبيب: ما أخبار درنة؟ فأجاب الراعي: قُتِلَ الشيخ عبد المولى وقُطِع رأسه وعُلِّق أمام القصر، فبكى حبيب على أبيه، وترك الراعي وغنمه، وعرف أنه مخطئ في كل ما كان يفعل فرجع عن غيّه وطوى صحائف ما سبق من أعماله المشينة، وذهب إلى درنة ليرى ماذا سيفعل.
ويُذكرُ أنَّ قبيلة أولاد علي أرسلت مجموعة من فرسانها لقتل حبيب بن عبد المولى، فلمَّا رآهم حبيب ادَّعى أنَّه مجنون، وقرر الفرسان تركه حتى لا يتحدث الناس ويقولون بأن أولاد علي تقتل المجانين. وبسطت قبيلة (أولاد علي) نفوذها على أغلب مناطق الجبل الأخضر، وصارت أشد بأساً من ذي قبل وأقوى من الحرابي وجميع من في المنطقة.
فَكَّرَ حبيب أن يذهب إلى صديق والده الشيخ (القِرِّي) وهو من قبيلة العوامة، وأن يستشيره بِمَ يفعل؛ وذلك لاتصافه بالحكمة وحُسن الرأي، فقابله القري بعبوس وظن أن حبيب قد جَبُنَ أو جُنَّ، وذلك كما يدَّعي كثير من الناس، وقال له: أنت هبل (أبله)، فقال حبيب: (أول هبال من صادر الريح وبال، وثاني هبال من خش السوق بلا مال، وثالث هبال من خش المعركة بلا رجال)
فأيقن الشيخ القري بأن حبيباً ليس بجبان ولا بمجنون، وأنه عاقل ويعي ما يقول. فقال له: لا بد من الثأر يا حبيب. فقال حبيب: وما العمل؟ قال القري: اذهب إلى والي طرابلس واشتكي له من هؤلاء القوم (أولاد علي) وبطشهم، واطلب المعونة منه، فإنهم قوم يناصرون الحق ولا يرضون الضيم، لهم حلم ولهم بأس شديد، وأعطاه من المال لينتفع وليتزود بها في طريقه.
فاشترى حبيب فرساً وعزم على السفر وأوصى أخيه (غيثاً) بتدبر شؤون العائلة حتى يرجع من سفره أو يموت دون ذلك اتجه حبيب إلى طرابلس ومرَّ على بنغازي وكان اسمها ( مرسى الملح) وكانت فرس حبيب قد عجزت عن إكمال السير وذلك لعدم انتعالها و وعورة المسير، فجاء حبيب أمام ورشة الحداد وقال له بأن الفرس تحتاج إلى نعل، فسأله الحداد ساخرا منهً ومتهكماً: تريد نعلاً كاملاً أو نصف نعل، فردَّ عليه حبيب:
بالصدر ما نقرضوك ** وبالقفل نمشوا رضايا
وأنت كيف معطن العد ** اللي يجوك يمشوا روايا
ثمَّ استأنف حبيب سفره حتى وصل إلى طرابلس؛ ووصل أمام قصر الوالي فحاول مقابلة الوالي مراراً لكنه لم يستطع ذلك، فلجأ حبيب إلى الحيلة، وذلك أن الوالي كان له ابن صغير يخرج يومياً خارج القصر، وكان يمر من أمام حبيب، فقرر حبيب أن يعطيه هدية فأخذ الفتى الهدية ودخل القصر وأخبر أمَّه بأمر ذلك الرجل الغريب الذي كان أمام القصر، فنظرت الأم وابنها من أحد شُرُفات القصر فرأت حبيبا ينتظر خارج القصر ورأته أيضاً وهو يلبس أفخر الثياب، فعلمت الأم أنه ليس بمتسول، وأنَّ له حاجة كبيرة لابد من معرفتها، فأخبرت الأم زوجها الوالي بالخبر، فقام الوالي باستدعاء حبيب وسأله عن حاجته، فقال حبيب:
نا بوي يا بي محمـــود ** مقــــتول ظلم ماله اجنـــاية
المـــير في الوطن محســــود ** ذلوه ناســـــا رعـــايا
ثم أخبر حبيب الوالي بكل ما يلقوه (من أولاد علي) فسأله الوالي عن حاجته تحديداً، فقال حبيب: أريد تجريدة مكونة من الأسلحة والعتاد والفرسان، فلبّى الوالي طلبه وكان الوالي رجلا كريما عادلا مناصرا للمظلوين فأرسل معه جيشاً قوامه ألف فارس مدجج بالسلاح، كان أغلبهم من فرسان تاجوراء وزليطن ومصراتة.
استغرب حبيب كيف لفرسان بهذا العدد ورجال ميسوري الحال أن يقطعوا هذه المسافة لنصرته، ابتسم الوالي وقال لحبيب: (هؤلاء فراسين تاجوراء ومصراتة وزليطن حماة طرابلس لن يجدوا أدنى عناء في حماية كل مظلوم وردع كل ظالم)
ذهب جيش التجريدة مع حبيب واتجه إلى درنة، فلما قَرُبَ الجيش من مناطق الجبل الأخضر ناداهم حبيب بالتوقف والمكوث، وذهب مسرعاً إلى أحياء (نجوع) أولاد علي للبحث عن القري، وإخباره بالخبر، وإخراجه هو وأهله من المكان الذي ستحدث فيه الحرب، وحتى لا يحصل لهم ما يكره، حيث أن القِرِّي كان يقطن في حي قريب من أحياء قبيلة أولاد علي.
كان فرسان أولاد علي يصولون ويجولون في تلك المنطقة تأهُّباً لأي خطر، فقام حبيب بالتنكر بزي مغربي حتى لا يشك الفرسان به، ودخل الحي الذي يقطنه (القِرِّي) ووجده وقال له: إني أود أن ألعب معك السيجة (لعبة شعبية) فلعب حبيب مع القرِّي السيجة وكان فرسان أولاد علي ينظرون إليهما، وكان القرِّي قد عرف حبيباً؛ إلا أنه ادعى بأنه لا يعرفه، فقال حبيب للقرِّي:
ظنَّك إن جت جور مية ** غير بالمتع والشــــرابي
وهي سلافاتها عشر مية ** من غير طارشات النقابي
إن جت للشبيكة عشية ** ظنك اتضاوي الغــــرابي
فرد القري على حبيب قائلاً:
ريت الثلم وين ما هدم ** هو مقحزه هو امباته
وجا للمخيلي ورسم ** وجن يلعبن رايداته
في الليل وقت ما الفجر علَّم ** في نوم العدو هاجماته
كان هذا النقـــاش بالألغــاز بين حبيب والقري حتى لا يفهمه فرسان أولاد علي الذين كانوا يراقبونهما عن قرب، وكان رد القرِّي على حبيب بأن لا يسلكوا طـــريق (الشبيكة) الوعــرة وأن يسلكوا طريق منطقة (الثلم) وأن يبيتوا فيها، ثم يسلكوا طريق منطــقة المخيلي المُسَــطَّحة، وأن يُغــــيروا على أحـــياء (أولاد علي) وقت الفجر، فاستصوب حبيب هذا الرأي السديد وقال للقري:
يا شيخ ما كنت ذهَّاب ** ولا فيك شي من اللياشة
خــذها علي زينة الداب ** وخلي النــسا عالدباشة
را ايقابلك دير واركـــاب ** وحــلابة في هشاشة
خلي حشوها فيه ذهاب ** بعيد من كشيش الحناشة
أخبره حبيب في هذا اللغز الشعري بأن يأخذ فرسه وإبله- وهما المقصودان بجملة (زينة الداب) وأن يأخذ نسائه وأبنائه مع أمتعتهم قبل قدوم الجيش بفرسانه ومشاته، حتى لا يتأذوا من القتال الذي سيحصل.
ذهب حبيب وأخبر أبناء عمومته من الحرابي بقدوم جيش عرب الغرب، اتجهوا نحو الثلم، ثم المخيلي، ثم الغرابي (مكان أحياء أولاد علي)، فأغار الجيش على أولاد علي وحصلت مقتلة عظيمة بين الطرفين أسفرت عن انتصار جيش عرب الغرب، وارتبك أولاد علي واختُل توازنهم وتفرَّق شملهم وولوا الأدبار وهربوا إلى مناطق تقع في أقصى شرق برقة - وهو ما تُعرف الآن بمناطق السلوم وسيدي براني ومطروح التابعة لمصر، واستقرَّ أغلبهم فيها حتى هذا الوقت.
ذهب حبيب مع عشيرته المقربين من إخوته وأبناء عمومته ليبحثوا عن (النعيعيس) ويدركوا ثأرهم منه، وبينما هم في الطريق إذ بامرأة طاعنة في السن سقطت بهودجها (كرمودها) من على الجمل وهي من قبيلة أولاد علي، فاستغاثت المرأة بحبيب وطلبت منه المساعدة، فساعدها وركَّبها في الهودج، وأراد الانصرا، فإذ بالمرأة تناديه وتسأله: "من أنت؟ فإنَّي أود مكافأتك"- ولعلها كانت تظنه من قومها، فقال لها حبيب:
نا اللي نجيب التجاريد ** ونا اللي ندل الصفافي
ونا اللي نخلي الكراميد ** فوق من العجايز مكافي
فقالت له: أنت حبيب؟ قال: نعم. فأهدته ركاباً من ذهب، وقالت له: أنت أولى به منَّا.
ثم سار حبيب وعشيرته المقربين للبحث عن النعيعيس، حيث أن حبيب قال لهم: من يقتل النعيعيس له برنس (برنوس) وخاتم زعامة العبيدات، فذهب القوم كلٌ يبحث عن النعيعيس، فأدركه (غيث) وهو أخٌ لحبيب- فقتله وقطع رأسه وجاء به إلى حبيب، ففرح حبيب ومن معه بمقتل النعيعيس، وأهدى حبيب البرنس والخاتم إلى غيث وقال له: أنت من الآن هو زعيمنا، فصارت الزعامة في قبيلة العبيدات لأبناء غيث حتى وقتنا الحاضر، ولا زالوا يحتفظون بالبرنس والخاتم حتى وقتنا الحاضر.
رجع حبيب إلى درنة وطلب من قبائل (تاجوراء ومصراتة وزليتن) المكوث في ككرم منه ولحماية الحرابى من أي غزو أو انتقام محتمل من قبائل أولاد علي، وافق جيش عرب الغرب على طلب حبيب فأقاموا في درنة ولحقتهم عائلاتهم من طرابلس ومصراتة وزليطن.