التاريخ من الحوليات الليبية

التاريخ من الحوليات الليبية

فتح عمرو بن العاص الإسكندرية في سنة 22 ه ( 642 م)، ومنها توجه إلى طرابلس، حيث نزل عند التلال المعروفة اليوم بمنطقة الشعاب« الواقعة على بعد مسيرة نصف الساعة من هذه المدينة. ولقد ضرب عمرو الحصار حولها طيلة شهر، دون جدوى، إلى أن كلف رجلا يدعی المدلجي بمهاجمتها من ناحيتها الجنوبية؛ فنجح هذا الأخير في التوغل فيها خفية، ثم أطلق الإشارة باقتحامها، مكررة صيحة: «الله أكبر!» عدة مرات. وسرعان ما انطلق عمرو على رأس
المقتحمين تجاه الموضع الذي كانت تتعالى منه صيحات التكبير باسم الله؛ فتوغل داخل المدينة وأصبح سيدا لها . وسهل هرب الأهالي المتسرع نحو الجبال على عمرو بن العاص فتح المناطق المحيطة بالمدينة. ولقد ألحقت عملية الفتح بطرابلس، التي كانت مهجورة، بعض الخراب. وسارع عمرو باختيار بقعة لإقامة مسجد، وهي نفس البقعة التي ما يزال يقوم فوقها حتى أيامنا هذه مسجد أحمد
باشا .
كان فتح طرابلس الغرب هو أول الفتوحات الإسلامية في المغرب. ثم ما لبث أهالي المدينة الهاربون في وجه الفتح أن عادوا إلى ديارهم بعد أن اطمأنت نفوسهم بالإسلام . وفي سنة 25 ه ( 645 م)، قام الخليفة عثمان بن عفان بترقية أخيه في الرضاعة )عبد ال له ابن سعد بن أبي سرح) إلى رتبة أمير، وكلفه بفتح تونس. فمر في طريقه إليها بطرابلس وأقام بها
فترة قصيرة اعتنق خلالها الكثيرون من أهلها الإسلام.
وفي سنة 46 ه ( 666 م) ، عين معاوية بن أبي سفيان، رئيس دولة الأموي ين، الصحابي (رويفع بن ثابت النجار الأنصاري( واليا على طرابلس، فعلا شأن الإسلام فيها تحت إدارته العادلة. وظلت ولاية طرابلس تحت حكم الأمويين المزدهر حتى سنة 132 ه ( 749 م). وكان عبد الرحمن بن حبيب هو آخر أمراء هذه الأسرة التي حكمت طرابلس. وهو الذي أمر في سنة 132 ه بيناء التحصينات التي كانت تحمي مشارف هذه المدينة من جهة اليابسة، بعد أن كانت قد انهارت تماما. وبموته، الذي وقع خلال نفس السنة، انتقلت جميع البلدان الخاضعة ل لإسلام إلى بد هارون الرشيد، الذي عيّن كوال لطرابلس )هرثمة بن أعين( الذي أسبغت إدارته الحكيمة على البلاد حقبة من الرخاء. وهو الذي أمر في سنة 180 ه )796 م( ب بناء أسوارها الدفاعية من جهة البحر .
وظلت طرابلس تحت حكم العباسي ين حتى سنة 297 ه ( 909 م). وخلال حكم هذه الأسرة المالكة، ظلت إدارة هذه الولاية توكل باستمرار إلى ولاة معينين من قبل هؤلاء الخلفاء .
وخلال هذه الفترة أس س )عبيد ال له المهدي بن محمد بن قداح الشيعي) دولة العبيديين الفاطمية . كما عمت بلدان المغرب خلالها قلاقل أوقعتها في أيدي أمرائها الجدد. والعبيديون، الذين أدت سياستهم المشئومة فيما يقول ابن غلبون - إلى إثارة حفيظة الناس ضدهم، قد صاروا ممحونين على الخصوص ابتداء من ولاية القائم بأمر الله، الذي فاقهم جميعا في استبداده؛ إذ أنه قد ذهب حتى إلى حد شتم المسلمين علانية ، بل ولم يتوان حتى عن إضفاء الصفات الإلهية على نفسه. وبموته اعتلى العرش بعده ابنه المنصور بن إسماعيل، ومن بعده جاء ابنه المعز لدين الله . ولقد استولى هذا الأخير على مصر وأسس القاهرة التي جعلها عاصمة لملكه. وبعد أن أوكل إدارة طرابلس الغرب وتونس إلى أحد أعوانه، قام بجعل أثيره يوسف بن زيري حاكما لهاتين الولايتين .
ولقد دأب يوسف بن زيري ومن خلفه على إنزال جميع ضروب الظلم والجور بالناس، بحيث وقع سكان إفريقيا الشمالية الذين فرض عليهم بنو زيري تأليه هم - في أقصى درجات الهوان والإذلال. فمثلا، كان من عادة أهالي طرابلس أن يرصدوا ل ليوم العاشر من شهر محرم رؤوس الشياه التي ينحرونها، ثم يلبسوا في ذلك اليوم أزهى حلل الأعياد، ويأكلوا رؤوس الشياه تعبيرا عن فرحتهم. وفي مناسبة أخرى، تدعي يوم الجمل«، كانوا يخلعون على أحد الجياد أجمل الزينات ثم يتنزهون به في شوارع المدينة. وينعت ابن غلبون هذه العادة، التي ترجع إلى عهد يوسف بن زيري، بأنها عادة قبيحة ويقول أنها قد ظلت سارية المفعول أمد طويلا، ولم تبطل إلا بعد أن شجبها المسلمون الحقيقيون وتصدى لها الأئمة .
وقبيل نهاية سنة 540 ه ( 1145 م)، اندثرت سلالة يوسف بن زيري مع تولي المعز بن باديس. وظلت طرابلس تحت سيطرة العبيديين طيلة بقائهم في الحكم، غير أنه عند وفاة المعز، فإن الطرابلسي ين، الذين كانوا يتطلعون منذ مدة طويلة إلى الانعتاق من ظلم هؤلاء الحكام، قد أعلنوا استقلالهم الذاتي وحولوا ولايتهم إلى دولة مستقلة. وقرروا أن تختار كل قبيلة لها زعيما بمحض إرادتها وأن يتنازل كل زعيم بعد ذلك عن منصبه الرئاسي لمن يكون قد حصل من بينهم على أكبر عدد من أصوات القبائل الأخرى. غير أن الحرب نشبت بين هذه القبائل لعدم اتفاقها جميعا على الشرط المذكور، فهلك عدد كبير من الطرابلسي ين في حروب أهلية؛ وزاد الطين بلة استفحال الجفاف وندرة الأمطار وانتشار المجاعات، فأصبحوا في أقصى حالة من البؤس.
كان الصقليون )روجر الثانی ROGER))1( II ينتظرون الفرصة السانحة ل لهجوم على طرابلس. وعندما علموا بالحالة السيئة التي أصبح عليها أهلها، بادروا في سنة 541 ه ( 1146 م) إلى إرسال سفن حربية يقودها الأميرال (جورج ميخائيل GEORGE MICHAEL فحاصر المدينة مدة ثلاثة أيام، ثم استغل انشقاقات جديدة كانت قد نشبت بين الأهالي بخصوص انتخاب زعیم، فبادر إلى نصب سلالم على أسوار القلعة، حيث تسلقها رجاله واقتحموها. وعندما تسرب الصقليون إلى المدينة، عق أهلها من هول المفاجأة، فلم يدافعوا عن أنفسهم. ثم ما لبث وقع المفاجأة أن زال عنهم، فاستعادوا حركتهم وتأهبوا لمواصلة الجهاد؛ إلا أن فرصة شن المقاومة كانت قد ضاعت
وقام الأميرال جورج ميخائيل بالحفاظ على النظام، واقتاد إلى سفنه بعض الأعيان واحتجزهم كرهائن. ولكن بالنظر إلى أن القوات التي لديه لم تكن كبيرة، فإنه خشي أن يش الطرابلسیون هجوما مضادا؛ وهكذا فإنه استعمل كل ما كان لديه من أساليب ذكية في محاولة الاستمالتهم. وتمكن بالفعل، بفضل معاملته العادلة للأهالي، من أن يكسب ثقتهم. فرفض، بوازع من روح العدل والمصالحة، أن يتدخل في اختصاصات القاضي والوالي، بل وصرح بأنه مستعد لأن يتقبل بارتياح ويصادق، إذا ما اقتضت الحاجة ، على تعيين الأشخاص الذين يختارهم الطرابلسيون لشغل وظيفتي القضاء والولاية. فتم في هذا الجو انتخاب أبي يحيى بن مطروح التميمي والية لطرابلس، وأبي الحجاج يوسف بن زيري قاضيا لها. وبعد ذلك أطلق الأميرال الصقلي سراح الأعيان المحتجزين كرهائن. وبعد أن رأى أن الطمأنينة قد أخذت تخيم على البلاد وأن وجوده في طرابلس لم يعد ضروريا، فإنه أبحر عائدا إلى بلاده، بعد أن ترك عددا صغيرة من جنوده للدفاع عن المدينة .