البَربَر... يمانيّون لا أوروبيّون

البَربَر... يمانيّون لا أوروبيّون

البَربَر... يمانيّون لا أوروبيّون

بقلم الاستاذ والباحث الفلسطيني أحمد الدبش 

 

 

يسكُن الشمال الإفريقي شعب قويٌ البنية، صعب اِلمراس، عُرف عند المؤرِّخين القُدامى، والمُحْدِثينَ باسم البربر، وهذه التسمية يرويها المؤرِّخون العرب، عندما يتحدَّثونَ عنه، وقد اختلف الباحثون في أُصول الشعوب، اختلافاً  كبيراً، في تعْيين الأَصل الذي اشتُقٌ منه هذا الشعب، فمنهم من ردَّهُ إلى أصل سامي، أو يافثي، وجاء الأوربيون حديثاً، فزادوا البحث تشعٌباً، واضطراباً، سِيَّما المُغرضين منهم،  أولئك الذين لم يكونوا يبحثون عن الحقيقة لذاتها، وإنما كانوا يَرمون إلى تشكيك المستضعَفين في أنسابهم، ومحوْ الاعتزاز بالآباء، والأجداد من نفوسهم، إخماداً لجِذوةِ حِميتِهم، وحَماستهم،وترويضهم على الاستكانة، والهوان.

 نقدِّم هذه المادة، في سياق التأكيد على عروبة كل الأرض العربية، وعلى حقيقة الوجود القومي العربي، من العراق، وبلاد الشام، إلى مصر، والسودان، إلى بلدان المغرب العربي. فثمَّة مؤامرة اليوم، لوصف الوجود العربي، خارج الجزيرة العربية كاحتلال، ولاختراع هوِيّات محلِّية أصيلة، مُناهِضة للعروبة، وسابِقة لها، على ما زعموا، في كل أقطار العرب، خارج الجزيرة العربية. وإذ نقدِّم هنا صفحات موثَّقة من عروبة البربر (الأمازيغ) القديمة، فلأن التاريخ القديم للمغرب العربي يتعرَّض للتشكيك، والطعن بعروبته أكثر من غيره، أكثر من العراق، وسوريا الكبرى، مثلاً، وأكثر من مصر، والسودان. والمستشرقون الغربيّون حرصوا على اختراع أصول أوروبية للأمازيع (البربر)، كجزء من مشروع شطب هوية الوطن العربي؛ القومية، والحضارية.

ففي "موسوعة ويكيبديا" على الإنترنت، مثلاً، تجد بالإنجليزية تحت مدخل "بربر"، تعريفاً يقول: "أنهم قومٌ أقرب للأوروبيين، منهم للساميين، والعرب". وهو الأمر الذي يهدُف لسلخ المغرِب العربي الكبير عن أمَّتهُ. 

 

والدارِسون المُنصِفون للشعب البربري، لم يوجد بينهم واحد، يُنكِر أن يكون لبعض البربر منُتمي سامي [جزري بمفهومنا]، بل أكَّد العديد منهم، أن أكثريَّة القبائل البربرية، مُنحدِرة من الحميريّين سُكّان اليمن. فقد روي عن مؤرِّخي العرب، وعديد من مؤرِّخي البربر المتعرِّبين، من غزو الحميريّين لبلاد المغرب، في أواخر الألف الثالثة، وتخْليفهم بها، عند رجوعهم جماعات منهم، وفيرة العدد هُم أصل بعض قبائله، ولنَشِرْ إلى أحد مؤرِّخي اليمن، وهو "محمد بن الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني"، الذي أشار إلى ذلك في كتابِهِ الحافل، المُسمّى بالإكليل، فإنه لمّا ذَكر قبيلة لمتونة، التي منها الأسرة الملكيَّة المرابِطة بالمغرب، قال إنها فخذ من صنهاجة، وإن صهناجة من ولد عبد شمس بن وائل بن حِمْير، وإن الملك أفريقيش بن أبرهة، لمّا ملك حمير خرج غازياً نحو بلاد المغرب، وأرض أفريقية، فلمّا توغَّل بالمغرب بنى مدينة أفريقية؛ هي مشتقة من اسمه؛ وخَلف بها من قبائل حمير وزعمائها صنهاجة، ليردُّوا البربر على شاكلتهم، ويأخذوا خراجهم، ويُدبِّروا أمرهم. ويقال إن أفريقيش هو الذي سمَّي سكان المغرب بربراً، فإنه لما غزاه بقومه الحِِِمْيريين، وسمع رطانة سُكّانهُ، قال ما أكثر بربرتهم، فسُمّوا بربراً، والبربرة في اللغة اللَّغطُ، واختلاط أصوات غير مفهومه ([1]).

أما العلاَّمة "ابن خلدون"، الذي كَتَبَ تاريخه، بعد "الهمداني" بنحو أربعمائة عام، يرى أن البربر يصلون أنسابهم بأنساب العرب من أهالي اليمن. ولا أستطيع أن أَنقِل كل ما ذكرهُ العلاّمة "ابن خلدون"، في أنساب البربر، ولكن أَنقِل ما جاء في الجزء الثاني من تاريخه، حيث قال: "أول التبابِعة باتفاق المؤرِّخين الحارث الرائش... ثم مَلَكَ بعده ذو المنار... وسُمِّيَ ذا المنار؛ لأنه رَفع المنار ليهتدي به، ثم مَلَكَ بعده ابنه أفريقيش، وهو الذي ذهب بقبائل العرب إلى افريقية، وبه سُمِّيَتْ، وساق البربر إليها من أرض كنعان، مرَّ بها، عندما غلبهم يوشع، وقتلهم، فاحتمل أفريقش الغل منهم، وساقهم إلى أفريقية، فأنزلهم بها، وقتل ملكها جرجير، ويقال إنه الذي سَمّى البربر بهذا الاسم، لأنه لما افتتح المغرب، وسمع رطانتهم قال: ما أكثر بربرتهم، فسُمّوا البربر، والبربرة في لغة العرب، هي اختلاط أصوات غير مفهومة، ومنه بربرة الأسد. ولمَّا رَجع [أفريقيش] من غزو المغرب، تَرك هنالك من قبائل حمير صنهاجة، وكتامة، فهم إلى الآن بها، وليسوا من نَسب البربر([2]).

قال "نشوان الحميري": "الملك أفريقيس بن ذي المنار بن الرائش، غزا نحو المغرب عن يمين مسير أبيه، حتى انتهى إلى طنجة من أرض المغرب، فرأى بلاداً كثيرة الخير، قليلة الأهل، فأمر ببناء مدينة إفريقية، وأسكن فيها قبائل من قومِهِ، وهم كُتامة، وعُهامة، وزناتة، ولُواتة، وصُنهاجة، قبائل ضخمة في المغرب من حمير، ونقل البربر، وهم جيل من الناس، بقيَّة ممَّن قتلهم يوشع بن نون، هَربت منهم طائفة إلى السواحل، ثم رجعوا بعد ذلك إليها، فقتل إفريقيس منهم في غزوته من قاتل، ونقل بقيتهم، فأسكنهم بحيث هم من بلاد البربر، وفي ذلك يقول:

بربرت كنعان لما ساقها


من بلادِ المُلك للعيشِ اللجب([3])


أما "ابن عبد الحكم"؛ فيقول: "وكان البربر بفلسطين(*)، وكان ملكهم جالوت، فلّما قتله داود عليه السلام، خرج البربر متوجِّهين إلى المغرب، حتى انتهوا إلى لوبية، ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، مما يشرب من ماء السماء، ولا ينالهما النيل. فتفرَّقوا هنالك، فتقدَّمت زناتة، ومغلية إلى المغرب، وسكنوا الجبال، وتقدَّمت لواتة، فسكنت أرض انطابلس وهي برقة، وتفرقت في هذا المغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس.ونزلت هوارة مدينة لبدة. ونزلت نفوسة إلى مدينة سبرة. وجلا من كان بها من الروم من أجل ذلك([4]).

 

قال "الذهبي"، البربر، وبربر من وَلد قيذار بن إسماعيل؛"إِنَّ دَار البَرْبَر كَانَتْ فِلَسْطِيْن، وَمَلِكُهم هُوَ جَالُوت، فَلَمَّا قتله نَبِيُّ الله دَاوُد؛جلتِ البَرْبَرُ إِلَى المَغْرِب، وَانتشرُوا إِلَى السوس الأَقْصَى، فَطُول أَرَاضيهم نَحْوٌ مِنْ أَلف فَرسخ" ([5]).

وقال أيضا: "فَأَوّل مَنْ كَانَ فِيهِم الملك مِنَ البَرْبَر صِنْهَاجَةُ، ثُمَّ كُتَامَة، ثُمَّ لَمْتُونَة، ثُمَّ مصْمودَة، ثُمَّ زنَاتَة. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ دُرَيْد أَنَّ كُتَامَة، وَلَمْتُونَة، وَهَوَّارَة مِنْ حِمِيْر، وَمَنْ سِوَاهُم، فَمِنَ البَرْبَر، وَبربر مِنْ وَلد قيذَار بن إِسْمَاعِيْلَ"([6]).

يقول صاحب كتاب "تاج العروس من جواهر القاموس": "بَرْبرٌ: جِيلٌ من الناس لا تكادُ قبائلُه تَنْحَصِرُ، كما قالَه ابنُ خَلْدُون في التّاريخ، وفي الرَّوْض للسُّهَيْلِيّ: إنّهم، والحَبَشَةَ مِن وَلَدِ حامٍ، وفي المِصْباح إنّه مُعَرَّبٌ، وقيل: إنّهم بَقِيَّةٌ من نَسْلِ يُوشَعَ بنِ نُونٍ، مِن العَمَاليقِ الحِمْيَرِيَّةِ، وهم رَهْطُ السَّمَيْدَعِ، وإنه سَمِعَ لَفْظَهم، فقال: ما أكثَرَ بَرْبَرَتَكم، فسُمُّوا البَرْبَر،َ وقيل غيرُ ذلك . البَرابِرَةُ زادُوا الهاءَ فيه إما للعُجْمَةِ، وإمّا للنَّسَبِ وهو الصحيحُ . قال "الجوهَرِيُّ": وإن شئتَ حَذَفْتَها، وهم أي أكثرُ قبائلِهم بالمَغْرِبِ في الجِبال مِن سُوسَ، وغيرِهَا، متفرِّقَةٌ في أطرافِها، وهم زَنَانَةُ، وهَوّارة، وصِنْهَاجَةَ، ونبزةُ، وكُتَامةُ، ولَوِاتهَ، ومديونة، وشباته، وكانوا كلهم بفِلَسْطِينَ مع جالُوتَ، فلما قُتِلَ تَفَرَّقُوا ،كذا الدُّرَرِ الكَامِنَة للحافظِ ابنِ حَجَر([7]).

نجد رواية أخرى عند "أحمد بن أبي يعقوب بن واضح"، في تاريخه المشهور بتاريخ اليعقوبي، غير هذه تقول: "وكانت البربر، والأفارقة، وهم أولاد فارق بن بيصر بن حام بن نوح، لما ملك إخوتهم بأرض مصر، فأخذوا من العريش إلى أسوان طولاً، ومن أيلة إلى برقة عرضاً، خرجوا نحو المغرب، فلما جاوزوا أرض برقة أخذوا البلاد، فغلب كل قوم منهم على البلد، حتى انتشروا بأرض المغرب. فأوَّل من مَلك منهم لواتة في أرض، يُقال لها أجدابية من جبال برقة، وملكت مزاته في أرض، يُقال لها ودان، فنسب هؤلاء القوم إلى أبيهم، وجاز قوم منهم إلى بلد، يُقال له تورغة، فملكوا هناك، وهم هواره، وآخرون إلى بلاد أرميك، وهم بذرعه. وسار قوم إلى طرابلس، يُقال لهم المصالين، وجاز قوم إلى غربي طرابلس، يُقال لهم وهيلة([8]).

قال "ابن خلكان"، في مَعرض ذِكر أصل الملثمين [الطوارق]: "أصل هؤلاء القوم من حمير بن سبأ، وهم أصحاب خيل، وإبل، وشاء، ويسكنون الصحارىالجنوبية، وينتَقِلون من ماء إلى ماء كالعرب، وبيوتهم من الشعر، والوبر([9]).

أما "القلقشندى"، فقد لخَّص الآراء في نَسب البربر، قائلاً: "والبربر فيهم خلاف يرجع إلى أنهم، هل هم من العرب، أو من غيرهم؟ وقد اختلف في نسبهم اختلافاً كثيراً، فذهبت طائفة من النسّابين إلى أنهم من العرب، ثم اختُلف في ذلك، فقيل: أوزاع من اليمن، وقيل: من غسان، وغيرهم تفرَّقوا عند سيل العَرم، قاله المسعودي. وقيل: خلَّفهم أبرهة ذو المنار، أحد تَبايِعة اليمن حين غزا العرب. وقيل: من ولد لقمان بن حِمْير بن سبأ، بعث سريّة من بنيه إلى المغرب ليعمروه فنزلوا وتناسلوا فيه. وقيل: من لخم، وجُذام كانوا نازلين بفلسطين من الشام، إلى أن أخرجهم منها بعض ملوك فارس، فلجأوا إلى مصر، فمنعهم ملوكها من نزولها، فذهبوا إلى الغرب، فنزلوه. وذهب قوم إلى أنهم من ولد يقشان بن إبراهيم عليه السلام. وذكر الحمداني أنهم من ولد بر بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأنه كان قد ارتكب معصية فطرده أبوه، وقال له: البر، البرّ، اذهب يا بَر، فما أنت بَر.

وقيل: هم من ولد بربر بن كسلوحيم بن حام. وقيل: من ولد تميلة بن مأرب بن قاران بن عمرو بن عمليق بن لاوذ ابن إرم بن سام بن نوح. وقيل: من ولد قبط بن حام بن نوح.

وقيل: أخلاط من كنعان والعماليق. وقيل: من حمير ومصر، والقبط.

وقيل: من ولد جالوت، ملك بني إسرائيل، وأنه لمّا قَتَلَ داود عليه السلام جالوت، تفرَّقوا في البلاد، فلمّا غزا إفريقش الغرب، نقلهم من سواحل الشام، وأسكنهم المغرب، وسمّاهم البربر. وقيل: بل أخرجهم داود عليه السلام من الشام، فصاروا إلى المغرب. وهم قبائل كثيرة، وشعوب جمة، وطوائف متفرِّقة، وأكثرهم ببلاد المغرب، وقد صار بعضهم من المغرب إلى مصر، فنزلوا وتلبَّسوا بالعرب، بعضهم بالوجه البحري، ببلاد البحيرة، والمنوفية، والغربية، وبعضهم بالوجه القبلي بالجيزة، وبلاد البهنسا، إلى أقصى الصعيد. قال صاحب العبر: وهي على كثرتها ترجع إلى أصليْن، لا تخرج عنهما، وهم: الأول: البرانس، وهم بنو برنس من بربر. والثاني: البتر، وهم بنو مادغش الأبتر بن بربر. قال: وبعضهم يقول: إنهم يرجعون إلى سبعة أصول، وهم: إردواحة، ومصمودة، وأَوْرَبَّة، وعجبة، وكُتامه، وصنهاجة، وأوريغة. ثم قال: وزاد بعضهم: لمطة، وهكسوره، وكزولة"([10]).

وقال لسان اليمن "الهمداني"، في نَسَبِ قبائل الهميسع بن حمير الأكبر بن سبأ الأكبر، ما يلي: "وأما مُرّة بن عبد شمس فولده ـ كما يُقال والله أعلم ـ كتامة، وعهامة، وصنهاجة، ولواتة، وزنيت، وهو زناتة. وهُم رؤساء البربر، نُقِلوا مع سيِّدهم كنيع بن يزيد، يوم أشْخَصَه إفريقيس، إلى إفريقية، وصَرَف المُنتاب عنها"([11]).

يقول "ابن خلدون"، في مقدِّمته الشهيرة: "والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيرِهِ، في شأنهم أنهم من وَلَدِ كنعان بن حام بن نوح عليه السلام... وأن اسم أبيهم أمازيغ"([12]).

إذن تَسمِيتهم "أمازيغ"، فأصلها من الجَد الأعلى للبرانس، وهو "مازيغ بن كنعان"؛ ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه، نقلاً عن نسّابةِ البربر "هاني بن بكور الضريبي"، و"سابق بن سليمان المطماطي"، و"كهلان بن أبي لؤي"، و"أيوب بن أبي يزيد"، وغيرهم، قال: "إن البربر، فرقتان، وهما البرانس والبتر، فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان، والبرانس بنو برنس بن سفجو بن ابزج بن جناح بن، واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام، وهذا الذي يعتمدهُ نسّابة البربر"([13]).

فأغلب المؤرِّخين العرب يرون: "إن البربر قدموا من الجزيرة العربية، في زمن لا يقِل عن ثلاثين قرناً ق.م.، وأن الفينيقيين اختلطوا بالبربر، على طول السواحل الأفريقية المغربية، في القرن الثاني عشر ق.م.، ولمّا كان الفينيقيون عرباً من كنعان، فقد اختلطوا بالبربر، الذين هم عَرب من العاربة القحطانيَّة".

يقول الكاتب الفرنسي، "فلوريان": "التطابُق الكامل بين العرب والبربر، فيما يلي: أصل مشترك، لغة واحدة، عواطف واحدة، كل شيء يُساهِم في ربطها ربطاً متينا"([14]).

يقول "عبد الرحمن باغي": "علماء الجيولوجيا يعتبرون الجزيرة العربية، امتداداً طبيعياً لأفريقيا ، لا يفصلها عنها سوى منبطح وادي النيل، ومنخفَض البحر الأحمر"([15]).

يقول المؤرِّخ الأمريكي، "وليم لانغز" في تأريخهِ: "وإذن؛ فقد كان الاتجاه العام للحركة الحضارية، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، ولهذا كانت المناطق الجنوبية، والشرقية، في أي وقت مضى، تتمتَّع بحضارات أكثر رُقِيًّا، من حضارات المناطق الهامشيَّة، في الشمال الغربي"([16]).

يؤكِّد هذا، صِحَّة كون انتقال البربر من الجزيرة العربية، إلى إفريقيا، في تلك الفترة، لعدم وجود عوارِض لتلك الهِجرة. إن هذا الكلام لا ينفي وجود اختلاف في الأقوام، التي شكَّلت البربر، ولكن هذا الاختلاف، لا يخرج عن كونِهِ مُشابه للاختلاف، الموجود بين سكان جزيرة العرب، شمالها، وجنوبها، وما يؤكِّد هذا الكلام، ما قاله "ابن خلدون"، الذي يرى في البربر، ما يلي: "البربر قبائل شتّى، من حمير، ومضر، ولقيط، والعمالقة كنعان، وقريش؛ تلاقوا بالشام، ولغطوا، فسمّاهم إفريقش بالبربر، لكثرة كلامهم..." ([17]).

يختلف "الكلبي" مع بعض كلام "ابن خلدون"؛ فيقول: "إن كتامة، وصنهاجة، ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من الشعوب اليمانية، تركهما إفريقش بن صيفي بأفريقية، مع من نَزل بها من حامية..." ([18]).

نجد "ابن خلدون" يستطرد كلامه عن البربر؛ فقال فيهم: "لا خلاف بين النسّابة العرب، إن شعوب البربر، الذين قدمنا ذكرّهم ،كلَّهم من البربر، إلا صنهاجة، وكتامة، فإن من بين النسّابة العرب خِلافاً، والمشهور أنهم من اليمنية"([19]).

في توضيح لكلام "الكلبي" و"ابن خلدون"، فالرأي إنهم عندما قسَّموا البربر إلى عرب، وغير عرب، ليس المعنى أنهم قد قالوا بعدم عروبة البربر، وإنما قد فصلوا بين القبائل العربية، التي كانت في الجزيرة العربية، من حيث اللغة العربية، التي كانت يلهجون بها، من ناحية، ومن حيث تأثير مناطق سكناهم على صفاتهم، من ناحية أخرى.

هذا الاختلاف لا يخرج عن هذا الإطار، أما عن تحديد قبائل صنهاجة،  وكتامة،  بأنهم من العرب، فالمقصود أنهم من قبائل اليمن، أما الباقي فهم من قبائل العرب في بلاد الشام.

فالحديث عن شمال أفريقي جزري، لا يبدأ مع دخول الفينيقيين، في أوائل القرن الأول قبل الميلاد، وإنما يعود إلى أزمنة أقدّم بكثير، وهذا، بدورِهِ، يجعلنا ننظر إلى الشعب الذي أُطلِق عليه لفظ بربري، على أنه ينتمي إلى الشعوب الجزريَّة.

في ذلك يقول"د.طيب تيزنيي"، في موسوعة "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة، الجزء الثاني، الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى"، ما يلي: "هكذا إذن، نجد أنفسنا أمام فكرة أوَّلِيَّه مِحوريَّة؛ أن البربر ذوو جذور، ترتد إلى مصادر ساميَّة [جزريَّة بمفهومنا]، لا تبدأ مع نزوح الفينيقيين إلى هناك، وتأسيسهم مستوطنات خاصة بهم (قرطاجة خصوصاً)، في القرن السابع قبل الميلاد، كما يُعلن جميع المؤرِّخين، والباحثين. أن تلك الصِلَة، تغدو ضمن ذلك المنظور. أكثر قِدَماً. بل إنها تبدو بنوعية أخرى، تتحد بكون البربر أنفسهم ساميّين [جزريّين بمفهومنا]، أو ذوي جذور ساميَّة [جزريَّة بمفهومنا]([20]).

تُعتبر هجرة الفينيقيين إلى المغرب، واحدة من هذه الهجرات المُتأخِّرة للأقوام العربية، من الجزيرة العربية، التي سُبِقت بهجرات سابقة لها، لم يُسجِّلها التاريخ، كما سجَّل هجرة الفينيقيين. وتَنقُّل الفينيقيين، من الجزيرة العربية، إلى بلاد الشام، ومن بلاد الشام، إلى المغرب العربي، جاء عفوياً، ليؤكِّد تبادُل هذا المدْ البشري، في هذا الحوض الحضاري الكبير".

فمحرِّرو (مادة الجزائر)، في الموسوعة الفرنسية ( يونيفيرساليسUNIVERSALIS)؛  يقولون: "بدأ تاريخ المغرب الأوسط، بوصولِ الفينيقيّين، الذين سجَّلوا حضارتهم، كأول حضارة بالمدن، حيث تَركت بها آثاراً مكتوبة، فأسَّسوا مُبكِّراً، في القرون الأخيرة، للألف الثانية قبل الميلاد، مراكز تجارية. وتطوَّر الفينيقيون إلى قرطاجنيين، ولم يستعمروا داخل البلاد، ولكنهم طوَّروا هذه المدن الساحلية التجارية، والتي استمرَّت قائمة، حتى بعد تدمير قرطاج، تحمِل تسميات ساميَّة، كمدن راسكورو (دلس)، وروس كاد (سكيكدة)، وروس قونية (ماتيفون). وكان الرؤساء البربر، المسيطرون على داخل البلاد حلفاء، وزبائن تجاريين للقرطاجنيين، يمدُّونهم بفِرق عسكرية، وبخاصة بالفرسان النوميديّين المشهورين، وبالفِيَلة الحربية، والجنود.  وانتشرت اللُغة البونيقيَّة (اللهجة الفينيقية الكنعانية السائدة في شمال أفريقيا – الناسخ)، والحضارة الفينيقيَّة بعمق في البلاد، وظهرت مدناً للأهالي، وأضرِحة، ومزارات دينية، بنُيت، أحياناً، من طرف فَنِّيين قرطاجنيين. وهكذا فقد كان البربر تلاميذ للفينيقيين، الذين علَّموهم أساليب زراعية، وصناعية، كصناعة الزيت، والنبيذ، وصناعة الأدوات من النحاس؛ وعلَّموهم على الخصوص ديانتهم. واستمر البربر يعبدون آلهة قرطاج، حتى أثناء الاحتلال الروماني، لدرجة أن بعض المؤرِّخين، يرون أن المسيحية، ثم الإسلام، لم يُقبِلا من البربر، بهذه السهولة، إلا بسبب دخول هذه الديانة القرطاجنية المغرب، التي هي ديانة ساميَّة. واستمرت اللغة البونيقيَّة متداولة، حتى بعد القرن الثالث الميلادي، حيث لَعبت دور الوصلة إلى اللغة العربية"([21]).

لقد خرج البربر من العصر الحجري الحديث، ودخلوا التاريخ، والعصر الحضاري عن طريق إخوانهم الفينيقيين. فالمؤرِّخ الفرنسي المتخصِّص في الدراسات البربرية، "رونيه باسيه" (R. Basset)، يورِد حقائق تؤكِّد ذلك، فيقول: "إن اللُغة البونيقيَّة، لم تختف من المغرب، إلا بعد دخول العرب.  ومعنى هذا، أن هذه اللغة بَقِيت قائمة، هذه المُدَّة بالمغرب، لتِسعة عشر قرناً، وهو أمر عظيم. لقد استمر تأثير مدينة قرطاج قائماً، حتى بعد تدميرها، فقد تحوَّلت (سيرتا)، تحت حكم الملوك النوميديّين البربر، إلى مركز بونيقي، بل أن اسم سيرتا، هو (قرطا)، أي المدينة بالبونيقيَّة. لقد عَلم القرطاجنيون البربرَ الزراعةَ.  فالبربر يكسرون الرُمّانة على مقبض المِحراث، أو يدفنونها في أول خط للحرث، تفاؤلاً بأن سنابل الحبَّة المبذورة، ستأتي كثيرة، بعدد حبّات الرُمّانة. وهي عادة مستمدَّة من ثقافة قرطاج، فالرُمّانة لديهم رمز للخصوبة. وتُعتبر قرطاج مُربِّية للبربر، فقد علَّمتهم كيفية الاعتناء بالزيتونة، التي كانت موجودة بالمغرب، كشجرة وحشِيَّة، وكيفيَّة استخراج الزيت منها. ويفصل "غزيل" ((Gsell هذه المسألة لغوياً؛ فيقول: [إن كلمة أزمور بالبربرية، تعني الزيتونة الوحشيَّة، وهو الاسم البربري لهذه الشجرة. أما إذا تكلَّموا عن الزيتونة الملقَّمة، أطلقوا عليها الاسم السامي (الزيتونة)، وعلى سائلها اسم الزيت...].كما عَلَّمَ الفينيقيون البربر زراعة التينة، التي كانت قبلهم موجودة بالمغرب، كشجرة وحشِيَّة، أيضًا، وعلَّموهم زراعة الكرمة، والرمّانة، وعلَّموهم، عمومًا، فن زراعة الشجر المُثمر. وقد تبيَّن لنا الآن، أن البربر كانوا على اتِّصال بالفينيقيين منذ ما قبل التاريخ. وعَلَّمَ الفينيقيون البربر الصناعات القابِلة للتصدير، كالسيراميك، وصناعة المعادن، والنسيج، والمجوهرات: كالخلاخيل، والتيجان، والخلالات (المشابِك)، التي تصنع في صورة كف مبسوطة الأصابِع. والتشابُه واضِح، بين مجوهرات القبائل (بالجزائر)، والسوس (بالمغرب)، وبين المجوهرات القرطاجية. أما ديانة قرطاج فهي التي كانت مُنتشرة بالمغرب، كالإله (بعل عمون)، والإلهة (تانيت)، وكان هذا الإله منتشراً بالعالم العربي كلّه، الأمر الذي أوردَ اسمه القرآن، بالآية: "أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين"؛ لدرجة أن انتشار الإسلام بشمال أفريقي،ا عائد إلى ما فعلته قرطاج في هذه البلاد. أما عن اللُغة، فقد جعل الملوك النوميديون البربر، في العهود الأخيرة، من البونيقية، لغتهم الرسمية، لدرجة أنه كان الناس، في بلاد البربر، وفي المدن على الخصوص، يتحدَّثون البونيقيَّة، أكثر من البربريَّة، وحتى في العهد الروماني. إن المناطق التي انتشرت فيها البونيقيَّة أكثر، هي التي تعرَّبت بالكامل.والبونيقيَّة لُغة قريبة من العربية، التي ما إن دخلت المغرب، حتى خلَّفت البونيقيَّة، وبسهولة، كما أن آلهة قرطاج، هي التي مهَّدت لانتصار الإسلام، في هذه البلاد، واللُغة القرطاجنية، عبَّدت الطريق للعربية.وخُلاصة القول، أن قرطاج لم تجلب سوى الخير للبربر، فقد علَّمتهم غرس الأشجار المثمِرة، وربَّتهم روحياً، ودينياً. ومن الغريب أن هذا التأثير تعمَّق أكثر، بعد تدمير قرطاج.  لقد دُمَّرت روما أسوار قرطاج، لكنها فشلت في تدمير تأثيرها في نفوس البربر، بل إنه كلما تأسَّس احتلال روما للمغرب، كلما انتشرت، وتعمَّقت في نفوس البربر لُغة قرطاج، وعقائدها. وهل يختلف الوضع الآن عنه آنذاك؟!" ([22]).

ويؤكِّد مؤرِّخ آخر فرنسي، هو "سانتاس" P. CINTAS) )؛ فيقول: "لقد بيَّنت الكتابات البونيقيَّة المكتَشَفَة بالمغرب، والتي تحمِل تاريخ  162و147 قبل الميلاد (أي تحت حكم ماسينيا)، مدى ارتباط الأهالي بقرطاج دينياً، من خلال عبادتهم لبعل عمون، الإله القرطاجي، وهذا يؤكِّد السيطرة المستديمة للديانة القرطاجية، على السكان المحلِّيين. أريد التحدُث عن استمرار البونيقيَّة، فقد بقِيت منتشرة بالمغرب، بعد تدمير قرطاجن وفي العهد الروماني، وحتى بعد القديس أوغسطين، الذي ذَكر مراراً أن السكان الذين كانوا يحيطون به، يتكلَّمون البونيقيَّة.   إن اللُّغة البونيقيَّة استمرت بين بعض البربر، كلُغة ثقافة. بل أن الدوناتيَّة مقدّمة لإلغاء الإسلام للمسيحية، وللثقافة الرومانية بالمغرب([23]).

 

فحسب رواية "بروكوبيوس" (Procope)، أحدث احتلال يوشع بن نون للأرض الموعودة، رحيل الأقوام الذين كانوا يقطنون الشاطئ. وبعد أن حاول هؤلاء الاستقرار في مصر، ووجدوها مزدحمة بالسكان، توجَّهوا نحو ليبيا التي احتلوها حتى أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق)، وأسَّسوا عدداً كبيراً من المدن. يؤكِّد "بروكوبيوس"، وقد بَقِيَ فيها خلفهم، ومازالوا يتكلَّمون لغة الفينيقيين، حتى اليوم. وقد شيَّدوا، أيضاً، حصناً في نوميديا، في المكان الذي ترتفع فيه مدينة تيجيسيس (Tigisis). وهناك، بالقرب من العين الكبيرة، تنتصِب مسلَّتان من الحجر الأبيض، نُقش عليهما بحروف فينيقية، وبلغة الفينيقيين، ما معناه: نحن الذين هربنا بعيداً، من أمام الشرير يوشع بن نون.

تستند هذه الرواية، كذلك، على بيِّنة أخرى، نجد أثرها، قبل ذلك بقرن، في رسالة للقديس "أوغسطين" (Saint Augustin)؛ جاء فيها: "إذا سألتم فلاحينا من هم: يجيبون بالبونيقية أنهم شنانيون، أو لا يتفق هذا الشكل المحرَّف بلهجتهم مع  كنعانيين؟". ويذهب علماء كثيرون، مثل "أ. دى فيتا" (A.di Vitta)، إلى تفسير رواية "بروكوبيوس" (Procope)، بالذكرى الغامضة لأقدم تغلغُل فينيقي في الغرب، وكان سابقاً لتأسيس قرطاج ([24]).

يَذكر المؤرِّخ الفرنسي "رينان"(E. RENAN): "أن البربر اعتنقوا الإسلام  بسهوله، لأنهم كانوا يعرفون البونيقيَّة"([25]). 

 ويقول "محمد شفيق"، من المغرب الأقصى؛ وهو متعصِّب للبربرية: "كتب المؤرِّخون العرب، وجزموا بأن البربر من أصل يماني، من العرب العاربة، وتكمُن فكرة التأكيد، اليوم، على القَرابة القديمة المحتمَلة، بين الأمازيغيين، واليمانيين، في ثلاث قرائن: أولاً:  أن عددًا لا بأس به من أسماء الأماكن، على الطريق الذي يمتد من المغرب الكبير، واليمن، لها صِيغ أمازيغية واضحة.  منها في صعيد مصر (أبنو، أسيوط)، وإيخيم، وتيما، في جبل حوران، في سوريا، وتيما في شمال السعودية، وتاركما، وأتبار، وتيمرايين في السودان، وأكسوم، بأسمرا، وأكولا، وأكوؤدات (أكوؤضاد )، في أريتريا، وجزيرة أنتوفاش، في اليمن. ثانياً: لقد عثَرت على عدد من الألفاظ العربية التي قال بشأنها صاحب لسان العرب، أنها حميريَّة، أو يمانيَّة، وهي الألفاظ التي لها وجود في الأمازيغية؛ إما بمدلولها الحميري، أو بمدلول مُعاكس (الأضداد) - [درج العرب القدماء على وصف الأشياء بأضدادها – الناسخ]، ثالثا : بين حروف التيفيناغ القديمة، ومنها التوارقيَّة، وبين حروف الحميريين (الأبجدية الحميريَّة – المسند) شَبَه ملحوظ" ([26]).  

يقول "محمد شفيق": "... تسمى هذه الحروف تيفيناغ، ولقد أُوِّلَتْ هذه التسمية تأويلات مختلفة، أسرعها إلى الذهن هو أن الكلمة مشتقَّة من 'فينيق، فينيقيا'، وما إلى ذلك. قد يُطابق ذلك أصل هذه التسمِية، ولكن المحقَّق، هو أن الكتابة الأمازيغية غير منقولة عنها، بل رجَح الاعتقاد بأنها، والفينيقية، تنتمِيان إلى نماذج، جد قديمة، لها علاقة بالحروف التي اكتُشِفَتْ، في جنوبي الجزيرة العربية" ([27]).  

يقول أيضًا:"بين حروف « تيفيناغ »، القديمة منها والتواركَية، وبين حروف الحميريين، شَبَه ملحوظ في الأشكال، لكنها لا تتقابل في تأدِية الأصوات، إلا في حالتيْن اثنتيْن، بتجاوُز في التدقيق" ([28]).

ويؤكِّد المؤرِّخون، أن مدينة سوسة بتونس، بناها العرب القادمونَ من جنوبِ الجزيرة العربية، قبل أربعة آلاف سنة، وأعطوها اسم (حضرموت). وتوجد أسماء باليمن متطابِقة مع أسماء لقبائل بربريَّة، كالأشلوح؛ اسم قرية، وقبيلة باليمن، والشلوح تجمُّع كبير للقبائل البربرية بالمغرب الأقصى. والأكنوس، عشيرة من بني مهاجر باليمن، ومكناسة بالمغرب([29]).

 

يشير "عبد الوهاب بن منصور"، عضو أكاديميَّة المملكة المغربيَّة، في دراسته القيِّمة "دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل بربرية"، إلى أن العلماء المحدِّثين، عندما أخضعوا أصل البربر، أو أصولهم للمقاييس العلميَّة الخاصة بهم، كَلَون البشرة، ونوع الشَعر، وشكل الجمجمة، وبنية الجسم، مضافة إليها اللُغة، والموسيقا، والمعمار، والعادات، والمعتقدات، وجدوا بيْن بعض قبائل البربر، وقبائل العرب، في اليمن، وحضرموت، شبهاً كبيراً، مالوا معه إلى تصديق ما يروِيه كثير من نسّابة العرب، والبربر، ومؤرِّخيهم، عن عُروبة الأرومة البربرية، فشكْل الإنسان في بعض القبائل البربرية، شديد الشبه بشكْل الإنسان العربي، في اليمن، وحضرموت؛ كما أن الشبَه قوي بين اللهجات البربرية، وبين اللغة العربية، من حيث الاشتقاق، وتصريف الكلمات، ووجود حروف الحلْق مجتمعة، وهي لا تجتمِع إلا في اللُغات الساميَّة [الجزريَّة]، ويشتد على الخصوص بين اللهجات البربرية، وبين لغة المهرة، في غرب سلطنة عُمان.

ومثل هذا التشابه يوجد، أيضًا، في الموسيقا، فالرنّات، والألحان، في موسيقا الجنوبي العربي، وأغانيه، وكذلك التصفيق الرتيب، الُمصاحب بأيدي، تشبه كلها الرنّات، والألحان، في موسيقا، وأغاني القبائل البربرية، بالجنوب المغربي، وكذلك طريقه الأداء، والإنشاد، وقد دَرس كل ذلك، العالِم الألماني، "كارل ولهم لخمان" (1793ـ1851 )، دراسة مُستفيضة، والموسيقار النمساوي، "فون هورن جوستل" (1877ـ1935)، وتَفطَّنَ له الرحّالة الألماني، "هانز هولفريتز"، وأشار إليه بإسهاب، في كتابه الموسوم اليمن من الباب الخلْفي.

ولكن الذي لفت نظر الباحثين، والدارسين الُمعاصرين، الذين يعتمدون على الأدِلَّة العلميَّة، والمقاييس العقليَّة، واستدلّوا به على عروبة بعض قبائل البربر، في شمال أفريقيا، هو تشابُه المعمار اليمني، والمعمار البربري، وتطبيقها؛ فقد قارنو بين المباني العالِيَة، الموجودة  في جنوب الجزيرة العربية ،وبين المباني العالية في قلب الحضارة البربرية، بأعالي جبال الأطلس، فلم يجدوا بينهما فرقاً؛ فالمباني في الجهتيْن معاً، تَحمل المظاهر المعماريَّة، والسمَّات الهندسيَّة نفسها؛ كالنتوءات، والأنابيب الخشبيَّة، لصرف مياه الأمطار، والكوات، والثقوب؛ حتى إنك لو سَكنت، برهة من الزمان، قلعة من قِلاع جبال تعُز، وصعدة، أو صرحاً شامخاً من صروحها؛ ثم انتقلت فجأة إلى قلعة من قِلاع أمزميز، وتلوات، بجبال الأطلس الكبير، بالمملكة المغربية؛ لتخيَّلْت أنك لا تزال في مسكنك الأول؛ الشيء الذي يؤكِّد الاعتقاد بصِحَّة ما يُردِّدهُ كثير من مؤرِّخي العرب، والبربر، ونسّابيهم، من انحدار البربر، أو بعض من قبائلهم من أرحام يمنيَّة!([30]).

 


([1]) مجلَّة دراسات يمنيَّة (صنعاء)، عبد الوهاب بن منصور، دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل 

      بربرية، العدد الثامن والثلاثون، مجلَّة فصليَّة تصدر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، أكتوبر

     ـ نوفمبر ـ ديسمبر، 1989، ص (115-116).

([2])  (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ ابن خلدون، المُجلَّد السادس، الجزء الثاني، مصر،

       مطبعة بولاق، بدون تاريخ نشر، ص51.

(*) هنا خطأ تاريخي قصد منه منطقة يمانية، يراجع (الدبش) أحمد، كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة

   العرب، ط1، دمشق، خطوات للنشر والتوزيع، 2006.

([3])  (الحميري) نشوان، خلاصة السيرة الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة،تحقيق: علي بن اسماعيل 

       المؤيد واسماعيل بن احمد الجرافي، ط2، بيروت، دار العودة، 1978، ص71.

([4])  (ابن عبد الحكم) عبد الرحمن بن عبد الله، فتوح مصر والمغرب، الجزء الأول، تحقيق: عبد المنعم 

    عامر، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1999، ص229.

([5])  (الذَهَبي) شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، الجزء الثامن عشر، تحقيق:

       مجموعة محققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، بدون بلد نشر، مؤسسة الرسالة، ص429.

([6])  المصدر نفسه، ص429.

([7])  (الزَّبيدي) محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني أبو الفيض، تاج العروس من جواهر القاموس،

       الجزء الأول،تحقيق: مجموعة من المحقِّقين، بدون بلد نشر، دار الهداية، ص(2502-2503).                                                            

([8])  (اليعقوبي) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ اليعقوبي، موقع الوراق:http://www.alwarraq.com

([9])  (بن خلكان) أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان وأنباء الزمان، 

    الجزء السابع، تحقيق: إحسان عباس، بدون بلد نشر، دار الثقافة، 1968، ص 128.                                                                  

([10])  القلقشندى، قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، نسخة مصوَّرة، بدون بلد نشر، 

       بدون دار نشر.                                                                  

([11]) (الهمداني) الحسن بن أحمد بن يعقوب، الأكليل، الجزء الثاني، تحقيق: محمد بن على الأكوع 

      الحوالي، ط 3، بيروت، منشورات المدينة، 1986، ص94.                                                                   

([12])  (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار الجيل،

       بدون تاريخ نشر، ص106.

([13])  (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ ابن خلدون، الجزء الرابع، مصر، مطبعة بولاق،

        بدون تاريخ نشر، ص164.

([14])  (السعدى) عثمان، البربر الامازيغ عرب عاربة، ط2، طرابلس ــ ليبيا، شُعبة التثقيف والتعبئة 

        والإعلام، ص28.

([15])  (ياغي) عبد الرحمن، حياة القيروان، بدون بلد نشر، بدون دار نشر، بدون تاريخ نشر، ص13.

([16])  (لانغر) وليم، موسوعة تاريخ العالم، الجزء الأول، ترجمة:د. محمد مصطفي زيادة، القاهرة، مكتبة

       النهضة المصرية، 1962، ص (25-26).

([17])  تاريخ ابن خلدون، مصدر سبق ذكره، ص 177.

([18])  المصدر نفسه،ص 192.

([19])  المصدر نفسه،ص (184-185).

([20])  (تيزينيي) د. طيب، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة , الجزء 

        الثاني ,الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، ط1، دمشق، دار دمشق، 1982، ص67.

([21])Encyclopeadia Universalis, T1, P633 .

([22])  Rene Basset: Les Influences Puniques chez les Berberes, Revue Africaine, V.62 (1921), p.340.

([23])    P. Cintas: Ceramiques Puniques, Paris 1950.  Revue Africaine, Vol. 100, 1956

([24])    (ج. كامب)، البربر الذاكرة والهوية، ترجمة: جاد الله عزوز الطلحي، طرابلس ـ ليبيا،  مركز جهاد

        الليبيين للدراسات التاريخية، 2005، ص (51-52).

([25])    E. Renan: Histoire Generale des Langues Semitiques 7eme edition, p.199.

([26])  (شفيق) محمد، ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ الأمازيغيين، الرباط، بدون دار نشر،

      1989، ص (20-21).

([27])  ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ الأمازيغيين، مصدر سبق ذكره، ص 65.

([28])  المصدر نفسه، ص 21.

([29])  لمزيد من التفاصيل عن تطابق الاسماء اليمنية مع القبائل البربرية، يراجَع (النوايسة) أديب، المعجم

       الشامل للقبائل العربية والأمازيغية، ثلاثة أجزاء، ط1، عَمّان، دار كنوز المعرفة، 2007.

([30]) مجلة دراسات يمنيَّة (صنعاء)، مجلَّة فصلية تَصدُر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، عبد

      الوهاب بن منصور، دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل بربريَّة، العدد الثامن والثلاثون، أكتوبر ـ   

      نوفمبر ـ ديسمبر، 1989، ص (115-116).