ثورة الكراغلة

ثورة الكراغلة

بعد قدوم العثمانيون في منتصف القرن السادس عشر (1551) إلى طرابلس بدعوة من الطرابلسيين لطرد فرسان القديس يوحنا أسسوا ولاية طرابلس والتي شملت الاقاليم الثلاث برقة طرابلس وفزان...الضباط والجنود الانكشارية الاتراك الذين جاؤوا استقروا داخل المدن الليبية وتزاوجوا مع السكان المحليين او من سبايا حروبهم بأوروبا ....خلال قرنين من الزمان نتج عن هذا التزاوج طبقة اجتماعيية جديدة هي طبقة الكراغلة ..تجد الاسرة الكرغلية تتوارث وظيفة الجد المؤسس الذي جاء ليبيا والذي هي في الغالب وظيفة ضابط او جندي في الجيش العثماني..في مطلع القرن الثامن عشر أصبحت هذه الطبقة متنفذة في مؤسسات الدولة بحكم اصولها التركية ووظائفها في الجيش العثماني من جهة ومن جهة اخرى بحكم قربها من السكان المحليين ....
هنا نذكر اسم اسرتين تكرر ظهورهما على مسرح الاحداث أسرة القرمانللي وأسرة المكني..
في مطلع القرن الثامن عشر بسبب انعدام الاستقرار السياسي وبسبب الضرائب الباهضة التي كانت التي كان يفرضها الوالي العثماني سادت حالة من الحنق داخل طرابلس على الوالي العثماني إبراهيم باشا ....هنا استغل مجموعة من الضباط الكراغلة هذا الحنق وقاموا بالانقلاب عليه وطرده للاسكندرية....
هذا الانقلاب ثم في عام 1711 كان بقيادة ضابط اسمه محمد الجن كان معه ضابطين مهمين نسيبه أحمد القرمانللي وضابط أخر اسمه محمود أبوميس ......
قام هؤلاء الضباط بقيادة الجنود تحت إمرتهم وبدعم السكان خارج السور بمحاصرة المدينة ....قام السكان لاحقا داخل السور بالثورة وفتح أبواب المدينة للثوار ففر الوالي ابراهيم باشا بحرا نحو الاسكندرية.....
عندما دخل الثوار بزعامة محمد الجن قاموا بتعيين إسماعيل خوجة وهو إاما مسجد الخروبة داخل طرابلس واليا جديدا.....
إسماعيل الخوجة كان مجرد حاكم صوري قام من خلاله محمد الجن بتسيير الامور لعدة أشهر بعدها تولى محمد الجن الحكم بنفسه ...أحمد القرمانللي بحكم سكنه في قصره في مقاطعة المنشية حيث يعتبر تقريبا حاكم هذه المقاطعة عاد لقصره في المنشية خارج القلعة ...هنا بقى محمد الجن ومحمود أبوميس داخل القلعة ...خلال فترة إسماعيل الخوجة ومحمد الجن تم التخلص من العديد من الضباط الاتراك واللذين يشك بولائهم.....لسبب غير معروف قرر محمود أبوميس الانقلاب على محمد الجن والاستيلاء على السلطة فقام بقتل محمد الجن ودبر حيلة للتخلص من أحمد القرمانللي في المنشية...ولان أحمد بك القرمانللي له شعبية كبيرة في مقاطعة المنشية أرسله لمهمة إلى غريان وأمر اتباعه هناك أن يقتلوه....
أحمد القرمانللي اكتشف الامر ودبر خطة مضادة للتخلص من محمود أبوميس والانتقام لمقتل صهره.....فاتفق مع عرب الدواخل وسكان المنشية وزحف على مدينة طرابلس...ما إن حاصر المدينة حتى انضم سكان طرابلس له وفتحوا ابواب المدينة له .....هنا انتحر محمود ابوميس داخل القلعة واصبح أحمد القرمانللي هو الحاكم بلامنازع داخل طرابلس (المدينة والمنشية) .....في البداية استمر أحمد القرمانللي في السكن داخل قصره في المنشية وترك يوسف المكني كنائب له داخل قلعة طرابلس.....عند توليه الحكم كان أحمد ضابط برتبة بك يبلغ فقط 25 عاما لكنه استطاع خلال 40 سنة أن يؤسس لدولة استمرت في الحكم قرابة 125 عاما....
السبب الرئيسي في نجاح هذه الثورة هو شخصية أحمد بك القرمانللي. وهنا سنستعرض سيرة هذا الضابط وكيف استطاع أن يسيطر على الحكم لمدة 40 عام في فترة ومنطقة عرفت بكثرة الثورات والانقلابات....
والد الجد المباشر لأحمد الذي جاء من قرمان اسمه مصطفى يتوقع أن جاء في القرن السادس عشر مع طلائع الجند الانكشارية . جده امتلك مزرعة في المنشية واصبحت هذه المقاطعة أشبه باقطاعية لاسرة القرمانلي من بعده...هذه الاسرة مع الوقت اكتسبت اللغة والعادات وحتى الملامح الطرابلسية والسبب هو تزوجهم من الاسر الطرابلسية.....مكانة أحمد في مقاطعة المنشية وحقيقة مصاهرته لمحمد الجن زعيم انقلاب عام 1711 جعله طرف مهم في الانقلاب او الثورة ...وبسبب عملية الغدر التي قام بها محمد أبوميس وجد أحمد نفسه مضطرا للتحرك من معقله في المنشية والسيطرة على الحكم داخل القلعة...وهنا بدأت سلسلة من الاحداث والمعارك التي انتهت بسيطرة أحمد القرمانللي على كامل اقليم برقة وطرابلس وفزان.....وهنا سنسرد هذه الاحداث حسب أهميتها....
أولا - التخلص من بقايا الانكشارية داخل طرابلس: قام أحمد باشا بالتخلص منهم بطريقة مأساوية...حيث دعاهم لوليمة داخل قصره في المنشية ..حيث كان هذه الوليمة مجرد كمين للتخلص منهم...كان كل من يدخل القصر منهم يقوم هو وجنوده بقطع رأسه ...يقال انه بهذه الطريقة قام بقتل قرابة 200 جندي انكشاري ..وأرسل وفد للاستانة يتهم فيه من قتلوا من الانكشارية بانهم مثيرين مشاكل يستحقون العقاب.
ثانيا- السيطرة على تاجوراء واخضاعها لسيطرته وجعل أخوه عثمان بك حاكما عليها.....
ثالثا - القضاء على المجرم أبوقيلة: كما قلنا أن أبوقيلة كان مجرد قاطع طريق يمارس بنصرة قبيلته السلب والنهب والقتل والاغتصاب...من جرائمه المشهورة هجومه على قافلة تحمل الخراج من زلة إلى طرابلس...والجريمة الاكثر شناعة هجومه على قبيلة تسمى أولاد خليفة جنوب شرق طرابلس وقام بقتل قرابة 600 شخص واغتصبوا نسائهم..اعلن أبو قيلة أنه المهدي وهنا تبعته قبائل كثيرة وامتد نفوذه حتى برقة....بعد عدة معارك استطاع جيش أحمد ان يقضي عليه ويقتله في منطقة قرب مزدة.
رابعا - اخضاع فزان: بسبب امتناع حاكم فزان عن دفع الخراج أرسل له أحمد بك القرمانللي حملتين الاولى عام 1716 والثانية بعد عامين 1718 ...الاولى بقيادته ولم تنجح في دخول مرزق لان أحمد باشا اضطر للرجوع لطرابلس وفك الحصار ...ولهذا قبل الصلح مع الحاكم محمد المنتصر الذي تعهد بدفع الخراج.....بعد عامين توفي محمد المنتصر وتولى أحمد بن محمد المنتصر الحكم ورفض دفع الخراج....هنا يبدو ان أحمد القرمانللي استفاد من تجربته السابقة فلم يذهب شخصيا بل أرسل ولديه محمد ومحمود وامرهما بحصار المدينة حتى يستسلم الحاكم ويقوما بجلبه لطرابلس...وهذا ماتم ....في عملية قصدها الاذلال قام أحمد القرمانللي ببيع أحمد المنتصر حاكم فزان لابنه بفلسين ....ثم أمرأحمد المنتصر بالعودة لحكم فزان باسم القرمانللين وأن ينزع عن نفسه لقب السلطان الذي يستخدمه أولاد محمد ويصبح مجرد شيخ بلد يجمع الخراج للقرمانللين.....وعند عودة أحمد المنتصر لمرزق أمر احد ضباطه بمرافقته لكي يقوم بهدم سور مرزق حتى لايستطيع حاكمها التمرد لاحقا......
خامسا- اخماد ثورة الكراغلة في برقة: لايبدو أن اخضاع برقة لحكم أحمد في بدايته أي صعوبات مثل ما حدث مع فزان....في عام 1720 كان عثمان بك أخو أحمد حاكم باسمه في برقة....في هذا العام قرر مجموعة من الضباط الكراغلة بزعامة إبراهيم الترياقي التمرد على القرمانللين هذا التمرد تم باغواء شخص يدعي البركة وعلم الغيب اسمه مفتاح بن عبد الرحمن الاصفر اللذي جمع له تاييد القبائل المحلية نجح هذا التمرد في برقة وقرر المتمردون التوجه غربا فسيطروا على تاورغاء وقصر أحمد التي وجدوا فيها كمية من السلاح وتوجهوا نحوا طرابلس ...عند تاجوراء استخدم أحمد القرمانللي حيلة لتفتيت الجيش...فعرض على جميع من شارك في التمرد - والذي يبدو انه كان تمردا سلميا دون قتال حتى هذه اللحظة العفو- باستثناء القادة الثلاثة الكراغلة...ففضل الجنود عدم الدخول في الحرب والاستفادة من العفو والاستفادة مما سلبوه من اموال...فانهار الجيش وفر القادة ......
سادسا: صد غزوات القراصنة : حاول القرصان خليل باشا السيطرة على طرابلس والقرصان جانم باشا السيطرة على برقة لكن أحمد القرمانللي نجح في إفشال المحاولتين....تجنبا لاطالة السرد لن نخوض في تفاصيل هذه المحاولات .....