عصور ماقبل التأريخ فى ليبيا

عصور ماقبل التأريخ فى ليبيا

بط تأريخ التحري الأثري في ليبيا وبضمن ذلك التحريات الخاصة "بعصور ماقبل التاريخ" بتاريخ الاحتلال الايطالي في العام 1911م، إلا أن تحريات عصور ما قبل التاريخ في ليبيا تتأخر في بدايتها زمنا ً آخر عنها في أقطار المغرب العربي، فلا تنشط بمقياس علمي محترم إلا في السنوات القليلة الماضية، ذلك لاهتمام الباحثين الأثريين الايطاليين بالأدوار الكلاسيكية (الإغريقية والرومانية) وعدم الالتفات إلا قليلا ً إلى أدوار ماقبل التاريخ الليبي واقل من ذلك بالنسبة إلى الأدوار العربية – الإسلامية .
وأنه حتى في هذه السنوات التي نشط فيها الاهتمام بتحريات عصور ماقبل التاريخ لم توجه هذه التحريات بالاتجاه السليم فقد شغل موضوع تسجيل الصور والرسوم الصخرية في الصحراء الليبية معظم الجهود. ومع أهمية هذا الموضوع والنتائج الباهرة التي تتمخض عن دراستها إلا أن الاتجاه المنطقي على ما نعتقد كان ينبغي أن يخصص جزء من هذه الجهود إلى التحري في مستوطنات ماقبل التاريخ في المناطق الصحراوية التي يحتمل أنها ستزودنا بحفائر طبقية ((stratigraphy فنعرف منها تسلسل أدوات الأدوار الحجرية في هذه المناطق، وكانت معرفتنا بها إلى حال التاريخ مقتصرة تقريباً على الملتقطات السطحية. ولكن هناك بوادر وجهود بدأت في السنوات الأخيرة لتلافي هذا النقص.
................................
التسميات وتسلسل الادوار:
سيتضح من التسميات التي سميت بها هذه الأدوار أن بعضها يطابق أسماء الأدوار الحجرية الأوربية والبعض الآخر مأخوذ لحسن الحظ من أسماء مواضع محلية في شمالي افريقية وجدت فيها أدوات هذه الأدوار المميزة لها لأول مرة فأطلقت أسماؤها عليها.
أولاً: العصر الحجرى "الايوليثى " (Eolithic):
في سنوات الحرب العالمية الثانية وجد الأستاذ "مكبرنى" نماذج من الأدوات الحصوية المميزة لهذا العصر في الموضع المسمى (بئر دوفان) في الجزء الشرقي من منطقة طرابلس، في نجد عالي من وادي مردوم. وأنتج الموضع نفسه وان لم يكن عن طريق الحفائر الطبقية أدوات حجرية من أوائل العصر الحجري القديم من نوع الفؤوس اليدوية، كما اهتدى بعض الباحثين الفرنسيين إلى وجود هذه الأدوات في الموضع المسمى (عين حنش) بالقرب من قسنطينة الجزائرية، وفي الموضعين المسمى (الحنك) وفي الموضع المسمى (سيدى عبد الرحمن) الواقعان قرب الدار البيضاء المغربية، وتعد هذه الاكتشافات في الشمال الافريقى أقوى الأدلة على أن تلك الأدوات الحصوية إنما هي صناعة حجرية وليست بقايا أو فضلات شظية، وإنها تعود إلى عصر حجري متحيز يسبق أقدم ادوار العصر الحجرى القديم وسمى بالايولينى، ولعل التسمية الصحيحة أن يسمى باسم محلى من شمالي افريقية أما العصر الدوفانى أو الحنشى، نسبة للمواضع السابقة، ومما لاشك فيه أن النوع البشرى الذي عاش في هذا العصر وصنع أولى الأدوات الحجرية هوأقدم الأنواع البشرية القديمة البائدة لا يعرف شكله على انه يجوز الحدس بأنه من قبيل النوع البشرى المكتشف في اولدافيا عام (1959م)، وقدر عمره ما بين مليونين وومليون ونصف سنة.
ومجمل وصف هذه الأدوات الحصوية أنها اقرب إلى الشكل الكروي المضلع، وقد صنعت من حجر الكلس الصلد. وبالإضافة إلى الأماكن التي وجدت فيها مما ذكرناه سابقاً وجدت بكثرة على هيئة ملتقطات سطحية في أماكن كثيرة من ليبيا وسائر أجزاء المغرب العربي.
ثانياً: العصر الحجرى القديم وادواره:
عند الحديث عن هذا العصر في ليبيا سيتم اتباع التقسيمات المصطلح عليها في الصناعات الحجرية الأوربية، فيقسم العصر الحجري القديم إلى قسمين كبيرين،هما: العصر الحجري القديم الأدنى (Lower Palaeolithic)،
والشطر الثانى العصر الحجرى القديم الاعلى ( Upper Palaeolithic).
واستغرق النصف الأول الجزء الأكبر من دهر البلايستوسين، نحو ثلاثة أرباع هذا الدهر في حين أن النصف الثاني لم يشغل سوى عشر ذلك الدهر، وأمكن تعيين تسلسلها وتحديد أزمانها بطريقة الحفائر الطبقية (stratification) والاستفادة من معطيات العلوم الطبيعية كطرق النظائر المشعة.
‏.Iالعصر الحجرى القديم الادنى ( Lower Palaeolithic)
1. الدور الابفيلى (Abbevellian)
هو أقدم ادوار النصف الأول من العصر الحجري القديم الأدنى، وهو الدور المعروف سابقا ً باسم الدور" الشيلى" (Chellean) ثم أطلق عليه حديثاً اسم الدور الابفيلى وعين زمنه بالنسبة إلى أوربا في الفترة الجليدية الأولى، وكانت صناعة الأدوات الحجرية في هذا الدور باستعمال "لب" الحجر المشظى أي ما يعرف بمصطلح Coreindustry)) وقوام هذه الأدوات الفؤوس اليدوية السمجة الصنع (Gand-axes) ولعل ابرز الأماكن التي أنتجت أدوات هذا الصنف من العصر الحجري القديم تلك الحفائر الطبيعية المهمة التي أجراها "مكبرنى" في الكهف المسمى "هوا افتيح" القريب من مرسى سوسه والذي أنتج سلسة من الأدوات الحجرية ابتداء من العصر الحجري القديم الأدنى إلى العصر الحجري النيوليثي قرب سطح الكهف. وصفة الفؤوس اليدوية المميزة للطور الابفيلى خشنة الصنع والتشظية واشكال كمثرية.
2. الدور الاشولى (Acheulean)
هو الدور الثاني من ادوار العصر الحجري القديم الأدنى، ومن ناحية أسلوب الأدوات الحجرية وطرزها وأشكالها يعتبر الدور الآشولي متطوراً عن الدور الابفيلى السابق، وقوام أدوات هذا الدور الفؤوس اليدوية، بيد أن الفؤوس الآشولية أدق صنعاً وأتقن في اشكالها وهندامها، واشكالها في الغالب "لوزية " وليست كمثرية كالفؤوس الابفيلية.
‏.IIالعصر الحجري القديم الأوسط (Middle Palaeolithic )
عاش في هذا العصر نوع الإنسان القديم المعروف باسم النياندرتال، والذي وجدت منه بقايا عظمية في ليبيا، وامتازت ادوار هذا العصر في شمالي افريقيا انه لم يعثر في جميع المناطق المماثلة لصناعات العصر الحجري القديم في العالم على منطقة بلغت فيها صناعة التشظية في الدور الأوسط منه مستوى متكاملا ً مثل منطقة الشمال الأفريقي، الأمر الذي عد هذه المنطقة المركز الثقافي الأصلي لهذه الصناعة التي انتشرت منه إلى باقي أنحاء العالم، وقد قسم هذا العصر إلى دورين أطلق على أقدمهما اسم الدور اللفالوازي ( أو اللفالوازي – المستيري)، وعلى ثانيهما اسم الدور المستيري.
1. الدور اللفالوازي " أو اللفالوازي –المستيري":
إن أدوات هذا الدور المميزة له عبارة عن شظايا طويلة وعريضة تهندم وتصقل كثيرا ً بعد فصلها من لب الحجر، والعادة انه يعثر مع هذه الشظايا المستعملة أدوات على حجرة اللب التي قطعت منها تلك الشظايا، والتي يطلق عليها" اللب السلحفاتى" (tortoise core).
أما الصناعة المستيرية فهي بالدرجة الأولى صناعة تشظية أيضاً (flake ndustry) ،وأدواتها مصنوعة بعناية ومهارة، وأشهر أدوات هذه الصناعة ما يعرف بمصطلح المقاشط الجانبية (side scrapers) والمثاقب (points) والسكاكين وبعض الفؤوس اليدوية الصغيرة التي بهيئة القلب (cardiform).
وقد وجدت هذه الصناعة ممثلة في كهف" هوافتيح" من احدى طبقاته التي أنتجت فكان عظميا ً من نوع إنسان النياندرتال في حدود الفترة 60,000-40,000، كما وجدت محطة مهمة في وادى غات (في الاطراف الشمالية من جبل نفوسه) وفي الكهف المسمى حكفت الطيرة الذي يبعد 15ميلا ً جنوبى بنغازى .
2.الدور العتيري:
تمتاز صناعة هذا الدور بانها من الصناعات الحجرية التي يتفرد بها الشمال الافريقى ، واشتق مصطلح "العتيري" من اسم الموضع الذي وجدت فيه ادوات هذه الصناعة لأول مرة ،المسمى بئر العتير جنوب تونس.
تنتشر هذه الصناعة في الاجزاء الغربية من ليبيا، أي منطقة طرابلس، ولكنها تكون قليلة في الاجزاء الشرقية أي في منطقة برقة، عن اسلوب الصناعة العتيرية فانها من نوع صناعة التشظية industry) flake ) الخاصة بالطريقة "اللفالوازية المستيرية" وتتميز أدوات هذه الصناعة بآلة حجرية خاصة بها تسمى رؤوس السهام الكبيرة (tanged points )، وفيها أيضاً بعض المقاشط من نوع ال(end- K ,scrapers)والنصال الطويلة (flake-blades ).
‏.IIIالعصر الحجرى القديم الاعلى – صناعة النصال:
أظهرت التحريات الحديثة في الأقسام الشرقية من ليبيا ولاسيما في منطقة برقة، أن هذه الأجزاء تكاد تنفرد بكونها المنطقة الوحيدة التي أنتجت لحال التاريخ سجلا متكاملا ً مستمرا ً لذلك التبدل الذي حصل في أسلوب صناعة التشظية الخاصة به إلى صناعة النصال المميزة للعصر الحجرى القديم الأعلى، وعلى سبيل المثال : بعض الملاجىء والكهوف الجبلية مثل كهف "حكفت الطيرة"، و كهف "حكفت الضبعة" الواقعة في المرتفعات الوسطى من الجبل الأخضر، الذي أنتج أدوات حجرية من هذا العصر شبيهة بالصناعة التي وجدت في لبنان والأردن وفلسطين والمسماة بالصناعة "العمرونية " ،إلا أن الآلات المكتشفة في حكفت الضبعة آلات نموذجية ممثلة لهذا العصر، وأيضا هناك كهف "هو افتيح " حيث أنتج أدوات ممثلة لمعظم ادوار العصر الحجري القديم من النصف الأدنى منه ثم الأوسط 40,000 ق.م.ال43,000 بحسب نتيجة فحص الكربون -14 ثم الحجري القديم الأعلى منذ40,000 وأدوات شبيهة بالأدوات المكتشفة في حكفت الضبعة ، وكذلك أدوات من الطور الوهرانى في حدود 14,500 ق.م .
وقد اثمرت التحريات الواسعة التي قام بها بالدرجة الأولى الباحثون الفرنسيون في مطلع هذا القرن في أجزاء مختلفة من المغرب العربى، اثمرت عن نتائج مهمة في الكشف عن نماذج من صناعة النصال ،وقد ظهر من دراسة مثل هذه النتائج أن هناك صناعتين واضحتين من صناعة النصال في شمالي افريقيا اطلق على احديهما اسم الصناعة القفصية "نسبة إلى قفصة بتونس "والاخرى الصناعة الوهرانية "نسبة لوهران الجزائرية "وقد تتمثل الصناعة الوهرانية في ادوات حجرية صغيرة من نوع النصال "المثلومة" (backed blades ) ؛ كما ان لب الحجر (core) الذي كانت تفصل منه الشظايا لصنع مثل تلك الادوات كان ايضا ً صغيرا ً مفلطحا ً، مستطيلا ً او بيضويا ً ، مما يشبه انواع "اللب " التي وجدت في احدى حكفت الطيرة القريب من بنغازي ، كما عثرُ على اوائل هذه الصناعة في كهف "هوا افتيح " وحدد تاريخها مابين 14,000 و 10,000.
ثالثاً: العصر الحجري الحديث:
شهدت حياة الإنسان تبدلات جذريا في أسلوب الحياة اعقاب العصر الحجري الوسيط ، باهتداء جماعات بشرية في ربوع الشرق الادنى إلى انتاج القوت بالزراعة وتدجين الحيوان، وصاحب ذلك الانقلاب الاقتصادي الذي حدث في حياة الانسان في العصر الحجري الحديث تطور في اسلوب صناعة الادوات الحجرية.
والجدير بالذكر أن زمن ظهور خصائص هذا العصر في ليبيا قد تأخر عن زمن ظهوره في منطقة الشرق الأدنى، وان أقدم اطواره على ما يبدو يرجع في شمالي افريقيا إلى مطلع الألف الخامس ق.م أي في نهاية الدورين القفصي والوهرانى، بالإضافة إلى تأخر زمن ظهوره كان يختلف من ناحية التطور الاقتصادي الجديد، فد اقتصر على حد ما نعمل لحد الآن، على تدجين الحيوان ورعيها دون الزراعة والفلاحة ،التي يبدو إن ظهورها في شمإلي افريقيا قد تأخر إلى مطلع العصر التاريخي الذي يمكن تحديده بطلائع الاستيطان الفينيقي في أواخر الألف الثاني ق.م، والمرجح كثيرا ً أن خصائص البيئة الطبيعية في هذه المنطقة كانتفاء وجود الحبوب البرية على ما يحتمل هو الذي جعل انقلاب العصر الحجري الحديث يقتصر في أول ظهوره في الشمال الافريقي على تدجين الحيوان دون الزراعة.
وثمة أمر آخر يميز العصر الحجري الحديث في هذه المنطقة ذلك انه ظل زمنا ً طويلا ً إلى بداية العصر التاريخي الذي حددناه في أواخر الألف الثاني، حيث أدخلت أساليب الزراعة على ايدي الفينيقيين، ومنها زراعة بعض الأشجار المثمرة، كما ادخل استعمال المعادن ولاسيما الحديد، وإلى حد ما هو معروف لحد الآن لم تسفر الحفريات الأثرية التي اجريت في شمالي افريقيا عن وجود ما يضاهي هذا العصر الحجري المعدني، ومن بينها التحريات التي قامت بها جامعة بنسلفانيا الامريكية في منطقة برقة مابين عامي (1961و1962م). على أن النتائج السالبة لهذا التحريات ليست قاطعة على ما يبدو، ولعل الأحسن ترك التقرير هذه الحقيقة إلى المستقبل.
ومما يميز العصر الحجري الحديث في شمالي افريقيا أو أواخر الطور القفصي والوهراني ظهور فن الرسوم والصور الصخرية. التي تدل دلالة لا يرقى إليها الشك على انه حدثت في المناطق الداخلية من هذه المنطقة أطوار ثانوية من عصور ممطرة وعصور جافة. بدأت من بعد أول عصر للجفاف في نهاية العصور الحجرية القديمة ولاسيما في الدور القفصي، يدل على ذلك عدم العثور على أدوات هذا العصر في منطقة الصحاري من ليبيا، ثم حدث عصر ممطر في أوائل ظهور الفن الصخري، اعقبته عصور أخرى ممطرة وجافة حتى حلت آخر فترة للجفاف استمرت إلى الآن تقريبا ً منذ الألف الأول ق.م. على أن موضوع الصور الصخرية وأدوارها يكون موضوعا ً مستقلا ً بذاته لا يسع المجال هنا خوضه.