السيطرة الفينيقية القرطاجنية
السيطرة الفينيقية القرطاجنية :
اقترن ظهور طرابلس الغرب في التاريخ بنأكيد السيطرة الفينيقية، القرن السابع قبل الميلاد( وما تلاه، من توسع قرطاجنة التي قامت في القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد، بمد سيطرتها على المراكز التي تمتاز بأهميتها التجارية الكبيرة والتي أطلق عليها فيما بعد الكلمة اليونانية (أمبوریا)). وبدا اليونانيون في نفس الوقت ( ۱۳۱ ق.م) في استعمار سواحل برقة. وأسسوا قورينا. وعليه فإن إقليم (ليبيا) الحالي كان في الفترة الواقعة حول القرن السادس قبل الميلاد( مقسما بين سلطتين وحضارتين مختلفتين، وكان الحد الفاصل مطابقا تقريبا للحد الفاصل (حاليا) بين طرابلس الغرب وبرقة. وهويقوم على تقاليد تاريخية وأوضاع طبيعية وجغرافية.
إن الفينيقيين أو )البونيقي ين( الذين يمكن أن نسميهم القرطاجيين من جهة، والدوريين الإغريق من جهة أخرى، لم يتفقوا في زمن قصير على اقتسام مناطق السلطة والنفوذ. ونحن نعلم أنه في سنة 5۱۷ قبل الميلاد قام الدوريون الإغريق بتاسيس مستعمرة في مصب وادي )شنيف Cinifo(، وادي كعام القريب من مدينة )لبدة( التي كانت في ذلك الوقت مستعمرة قرطاجنية. وقد تدخلت قرطاجنة على الفور وقامت بتدمير المستعمرة الدورية بمساعدة السكان الليبيين الذين كانوا يعرفون باسم (مکاي Macae )). ثم اتفق الشعبان الاستعماریان المتنافسان على اقتسام مناطق النفوذ. وتروي لنا أسطورة شعرية بطولية تضحية الأخوين القرطاجني الذين عرف بها النصب التذكاري .(Arae Philenorum) li
ويحتمل الا تكون قرطاجنة قد استولت بقوة السلاح على المستعمرات البونيقية الأخرى القائمة في منطقة خليج سرت. وإنما كانت سيادتها عليها مجرد ظاهرة امتصاص تجاري وسياسي نشا عن القوة المتزايدة لدى المستعمرة الرئيسية المحظوظة، وضرورة الحصول على حمايتها وعونها ضد السكان الليبيين بالسواحل والدواخل، وقايتها من احتمالات التهديد اليوناني.
وقد ازدهرت قرطاجنة في الفترة الواقعة بين القرن السابع والقرن الرابع قبل الميلاد. وكانت تسيطر على الساحل الإفريقي الم ند من برقة حتى مضيق جبل طارق. وكانت تنشر المعارف الجغرافية، وتقيم العلاقات التجارية بين سواحل الأطلس بإفريقيا وبين إسبانيا وبلاد الغال. وقد قام أحد ملوكها هانون( في القرن السادس قبل الميلاد، بالإبحار على طول الساحل الإفريقي الم متد من أعمدة هرقل حتى خليج غينيا. وفي البحر الأبيض المتوسط، كانت قرطاجنة تسيطر سيطرة تامة، دون مضايقة من أحد. وكانت لها السيادة على جزر البليار ومالطا وسردينيا وكورسيكا أيضا اعتبارا من 545 قبل الميلاد. ولم يكن ينقصها سوى السيطرة على صقلية حتى يتم لها الانفراد المطلق بالبحر الأبيض المتوسط. وكانت توجد، منذ القدم - يرجح أن یكون ذلك منذ ۵۰۹ قبل الميلاد اتفاقات بين روما وقرطاجنة لتحديد مناطق النفوذ، وقد تم تأكيد هذه الاتفاقات في ۲۷۹ قبل الميلاد. بل وتم نوع من التحالف ضد (بيرو Pirro ) التي كانت في ذلك الوقت تثير المضايقات وتقلق الرومان والقرطاجنيين على السواء. إلا أن المسلك المثير للشكوك الذي سلكته قرطاجنة بإقدامها في سنة ۲۹۰ - ۲۹۸ قبل الميلاد، على إقامة حامية في مينا، والاستعداد للتدخل
في شئون إيطاليا، جعلا الصراع الروماني القرطاجني امرأة حتمية. وكان استنجاد سكان مسينا بروما بداية الحرب البونيقية ( ۲۹۱ )
قبل الميلاد. وهي الحرب التي انتهت بتأكيد السيادة الرومانية على صقلية. وفي الحرب البونيقية الثانية، أصبحت ل لرومان الأولوية في العلاقات سكان مع إفريقيا، وانتقل )صيفاقس Siface( ثم (مینا) إلى جانب الرومان. وأخيرا كانت الحرب البونيقية الثالثة نهاية للسيطرة القرطاجنية. وفي عام 146 قبل الميلاد الذي تم فيه تدمير قرطاجنة، تم أيضا إنشاء المقاطعة الرومانية في إفريقيا، وعاصمتها )عوتیکا Utica(. إلا أن (مینا) الملك الليبي على نومیدیا كان قد انتزع أثناء الحرب البونيقية الثانية من قرطاجنة )الأمبوريا( الواقعة في منطقة خليج سرت، وتشمل أيضا مدينة )لبدة(.الحكم القرطاجني على الإقليم الذي عرف فيما بعد باسم طرابلس الغرب. وبعد فترة من قیام شبه استقلال، وحكم ذاتي للملوك المحليين، بسطت روما سيادتها وأزاحتهم عن مراكز السلطة والسيادة. ويمكن القول إنه منذ القرن الثالث قبل الميلاد انتهی لقد تم تأسيس صبراتة وأوئيا (طرابلس) ولبدة أثناء الهجرات الفينيقية الأولي القادمة من فلسطين. ثم أصبحت هذه البلدان فيما بعد مستعمرات قرطاجنية. ويبدو أن لبدة قد انهارت بعد فترة من التطور المستقل، وأن قرطاجنة قد أعطت لها ازدهارا جديدا بعد أن تدخلت بقوتها وطردت المستعمرة الإغريقية عند مصب وادي )شينيف Cinifo( وادي كعام .
ويعتقد بأن المدن الثلاث البيض وأوئيات وصبراتة) قد شكلت أثناء السيطرة القرطاجية اتحادا فيما بينها، بينما يمكن القول بأن هذه المستعمرات الثلاث والمستعمرات الأخرى المنتشرة بين خليجي سرت لم تتحد، ولم تتجمع حول رباط سوی رباط التبعية المشتركة لقرطاجنة التي كانت تحتفظ بحاميات فيها، وتقوم بالتدخل للدفاع عنها عند الحاجة. وكانت تجارة هذه المستعمرات مع البلدان الخارجية خاضعة لتنظيم قرطاجنة ورقابتها. کا كان هناك ضباط معينون من قبل الحكومة المركزية ويعرفون باسم (سوفيتي Sufeti ) يتولون الشئون الإدارية للمستعمرة وجباية الضرائب والخراج. وكان لقرطاجنة أيضا حق التجنيد الإجباري، أما القبائل التي تعيش في الدواخل بعيدا عن المراکز المحمية فقد كانت مستقلة عن الحكومة القرطاجنية وترتبط بها غالبا بروابط التحالف والاتفاق.
وظلت هناك آثار واضحة للحضارة القرطاجية حتى بعد سقوط قرطاجنة، كالكتابات البونيقية المتعددة، بالإضافة إلى استعمال اللغة البونيقية إلى جانب الرومانية والإغريقية. كما ظل تأثير الحضارة القرطاجية مائلا في الأسماء ألقاب الوظائف والمعتقدات الدينية. ويشهد القديس أغسطينوس، في القرنين الرابع والخامس، على انتشار اللغة البونيقية في مناطق تونس والجزائر الحالية . ونحن نعرف أيضا أنه في القرن الثاني بعد الميلاد، كان الناس في لبدة، وطن سيبتيموس سيفيروس، يتحدثون اللغة البونيقية. وذلك يدل على أن الحضارة البونيقية اللغة البونيقية قد تغلغلتا في المستعمرات القرطاجية بإفريقيا الشمالية وانتشرتا ايضا في الأرياف المجاورة، حتى ليؤكد بروكوبيوس من القرن السادس بعد الميلاد، أن الأهالي )الماوري( كانوا يتحدثون البونيقية حتى في دواخل القطر. إن استمرار بقاء اللغة البونيقية ، وهي لغة سامية، ساعد على انتشار اللغة العربية التي استطاعت في قرون قليلة أن تحتل مكان البربرية التي لم تبق منها سوی جزر متفرقة منعزلة كواحات في الصحراء. ومن جهة أخرى فإن اعتناق الاعتقادات البونيقية الفينيقية التي تميل إلى فكرة التوحيد، قد هيا الأفارقة لقبول الدين المسيحي، ثم التلاؤم مع الدين الإسلامي بعد الفتح العربي