الذئاب العثمانية العاوية

الذئاب العثمانية العاوية

الذئاب العثمانية العاوية
من أجل عرشه، استحال العثمانلي ذئبًا عاويًا يفتك بكل من اقترب من سلطته. قتل الأب والابن والأشقاء والإخوة ولم يرع فيهم إلاًّ ولا ذمة، حتى لطخ ملكه بدماء الأقارب قبل الأباعد، وزينه بجماجم أناس كانوا قبل وقت قريب من تسلطنه يشاركونه الدم، ويقاسمونه الطعام والضحك واللعب.
ولأن آل عثمان كانوا أحرص الناس على إلباس جرائمهم لباس الدين، فقد استعانوا بفقهاء السلطة وشيوخ الإسلام لاستصدار فتاوى تجيز للسلطان منهم قتل إخوته وكل الأقربين ممن يهددون سلطته، حتى لو لم تثبت تهمة التآمر على المقتول، أو تتأكد عليه.
هذه الفتاوى التي صاغت القوانين الدموية: قانون البغي، وقانون القتل سياسة، صارت إحدى المشكلات الرئيسة لتاريخ الدولة العثمانية، حيث أعدم العشرات من أفراد سلالة آل عثمان، القليل منهم قُتل فعلا وهو متآمر، والأكثرية ماتت دون جريرة أو ذنب.
صراعات العرش
كان الصراع على العرش العثماني دائرًا بين أفراد السلالة الحاكمة منذ القديم. واعتاد الأمراء الأوائل من بني عثمان في البداية قتل خصومهم من الأقارب فور تحقيق النصر عليهم دون الاستناد إلى شرعية دينية محددة. هذا ما نراه مثلا في عهد الأمير أورخان الذي قتل شقيقيه خليل وإبراهيم بعد أن أعلنا العصيان ضده. ثم أعدم ابنه ساوجي بنفس التهمة.
كما قام الأمير بايزيد الأول بإعدام أخيه يعقوب فور مبايعته بالحكم، ويلاحظ أن قتل يعقوب تم على مجرد الشبهة، دون وجود دليل قوي على نية الأمير الثورة ضد أخيه بايزيد.
وأثناء الصراعات الأهلية التي دارت بين أفراد السلالة العثمانية مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، على إثر تدمير دولتهم الأولى بيد تيمورلنك، قام السلطان محمد الأول بقتل أخويه عيسى جلبي وموسى جلبي المتصارعين معه السلطة، ثم أكمل فعلته بقتل شقيقه مصطفى جلبي لاحقا.
وفي عهد خليفته السلطان مراد الثاني، قام الأخير بقتل عمه دوزمجة مصطفى، ثم أعدم أخوه الأصغر .
قانون البغي
ولكن مع سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين على عهد السلطان محمد الثاني العام 1453، أصبح السلطان العثماني مجبرا على التخلي عن عقيدة القتل بمبدأ الحكم لمن غلب، واستصدار حكم شرعي يخول له قتل منافسيه من آل بيته دون أن ينقص ذلك من الهالة الدينية القدسية التي أضفاها محمد الثاني على نفسه أمام جماهير المسلمين بعد دخول القسطنطينية.
لجأ محمد الثاني إلى شيخ الإسلام فخر الدين العجمي لإنفاذ ذلك. والعجمي أصله من بلاد فارس، لا نعرف سنة ولادته، ولا مكانها. ولكننا نعلم أنه ثالث شيوخ الإسلام في تاريخ الدولة العثمانية. تعلم أولا في بلاده فارس ثم جاء إلى الأناضول زمن السلطان محمد الأول سنة 1417، وأخذ يتقلب في المناصب الدينية حتى عين شيخا للإسلام في العام 1436 - 1437.
طلب محمد الثاني من عجمي أفندي فتوى تجيز له ولخلفائه من بعده قتل منافسيهم على الملك من داخل السلالة العثمانية، وقال السلطان صراحة: "إذا تيسرت السلطنة لأي ولد من أولادى فيكون مناسبًا قتل إخوته في سبيل تأسيس نظام العالم"، فأجابه شيخ الإسلام فورا بفتوى أسست لما عرف بقانون البغي، وكان نصه: "إن قتل الأخ والابن جائز للسلطان، لأجل المصلحة العامة وحفظ النظام".
وقد عرف قانون البغي بهذا الإسم لأن المحكوم عليهم بالإعدام من الأمراء إنما يقتلون بتهمة البغي على السلطان الشرعي للدولة، وكانت شروط البغي المستوجبة لإنفاذ ذلك القانون هي ثبوت قيام الأمراء بالعصيان والتمرد ضد السلطان ومحاولة الاستيلاء على الحكم باستخدام القوة (أي المغالبة)، أي وجود هدف وغاية العصيان بشكل واضح.
سياسة القتل
لكن قانون البغي على هذه الصورة لم يكن مرضيا لطموحات محمد الثاني، لأنه ظل مقيدا بقيود شرعية تتمثل في ضرورة توافر شروط البغي. لذلك، لجأ السلطان إلى واحد من فقهاء السلطة الملتصقين به، واسمه دده أفندي ليمنحه حكما شرعيا يمكنه من إعدام إخوته أو أبنائه دون التيقن من نواياهم ضد المتولي للعرش. وهذا الحكم معروفا في الفقه الحنفي باسم القتل سياسة.
على عكس قانون البغي، يجيز المذهب الحنفي عبر مبدأ القتل سياسة قيام السلاطين بقتل كل من يهدد النظام العام لدولتهم دون الحاجة لانتظار التثبت من نية مصدر التهديد إعلان العصيان والثورة بغرض قلب نظام الحكم.
هكذا، أصبح في مقدور محمد الثاني أن يؤمن عرشه بقتل مخالفيه دون الشعور بتعارض ذلك مع الدين. وراح يطبق سريعا مبدأ القتل سياسة فور غزوه القسطنطينية، إذ أمر بإعدام أخيه الصغير الأمير أحمد، وكان هذا الأخير له من العمر ستة أشهر فحسب!.
في السنوات التالية، أصبح سلاطين آل عثمان يتنقلون وفقا للظروف بين قانون البغي وقانون القتل سياسة. فقد قتل السلطان سليم الأول أخويه الأمير أحمد والأمير قورقود بناء على فتوى البغي، لأن كلا منهما حاربه على الملك.
أما السلطان سليمان القانوني، فقد اتكأ على القتل سياسة وهو يتخلص من ابنه الأمير مصطفى، حيث قبل وشايات زوجته خرم (روكسلانا) وبطانتها، وأمر بإعدامه بتهمة التدبير لعصيان دون أن تتوافر أمامه أية دلائل على ذلك. وبالمثل، قام ولي العهد الأمير سليم (سليم الثاني مستقبلا) ابن سليمان القانوني بالاستناد على القتل سياسة لإعدام أخيه بايزيد وابنائه الذكور الخمسة.
وابتداء من عهد مراد الثالث بن سليم الثاني، أصبح ديدن العثمانيين عشية البيعة لأي سلطان جديد، قتل جميع إخوته الذكور مهما كانوا صغارا في السن أو غير ناوين العصيان ضده، وافتتح ذلك مراد بقتله إخوته الخمسة جميعا، ثم قام ابنه محمد الثالث بقتل إخوته الـ18 دفعة واحدة يوم موت أبيه العام 1595، وكانت السلطانة صفية، أم محمد الثالث هي المدبرة لتلك المجزرة.